*جودت فخر الدين
هنالك أمورٌ نعتادُ عليها ونألفُها، وهي في الواقع مَدْعاةٌ للاستغراب، بل الاستهجان . من ذلك مثلاً أنّ الكتّابَ الرجالَ عندنا يُسألون دائماً عن المرأة ودوْرها في كتاباتهم، وكأنها مجرّدُ موضوعٍ من موضوعاتهم .
من حيث المبدأ، لا بأس في أن تكون المرأةُ موضوعاً لكتابات الرجال، وكذلك لا بأس في أنْ يكون الرجلُ موضوعاً لكتابات النساء، ولكنّ الغريبَ واللامنطقيَّ أنْ ينظرَ الرجالُ إلى المرأة وكأنها ليست سوى موضوع، أو بالأحرى ليست سوى عنصرٍ من العناصر التي يحتاجُ إليها الرجلُ في الكتابة . . . وفي غيرها . أليس في هذه النظرة قدْرٌ كبيرٌ من الازدراء بالمرأة؟ أليس فيها تكريسٌ لعدم التكافؤ بينها وبين الرجُل؟
في المقابلات الصحافية التي تُجْرى مع الكتّاب الرجال، تُطْرَحُ أسئلةٌ كالآتية:
ما حضورُ المرأة في كتاباتكَ؟ ما دوْرُها في حياتكَ؟ ماذا تعْني لكَ المرأة؟ وقد يُسألُ الكاتبُ (الرجُل) عن تعدُّد النساء لديْه، وعن أثر هذا التعدُّد في كتاباته (الإبداعية) . أنا هنا لا أعترضُ على السؤال، أيِّ سؤال، وإنما أودُّ أنْ أشيرَ إلى الخلفية الثقافية والاجتماعية التي تقفُ وراء الأسئلة التي أوردْتُ أمثلةً منها . في هذه الخلفية ما يدلُّ على قناعةٍ بأنّ المرأة ليست ندّاً للرجُل، وإنما هي مساعدٌ أو حافزٌ له، مُثيرٌ (أو مثيرةٌ) له . . . إلخ .
في أدبنا العربي، من قديمه إلى حديثه، ليس للمرأة حضورٌ كبيرٌ أو مكانةٌ مرموقة . ولْنَقُلْ إنّ مساهمات النساء في هذا الأدب أقلُّ بكثير، وأهونُ خطَراً أو شأناً، من مساهمات الرجال . ولْنأخُذْ الشعر، الذي هو فنُّ العرب الأول، والذي يأتي في طليعة أدبنا العربيّ، ولنتكلّمْ قليلاً على مساهمات النساء فيه .
في القديم القديم من هذا الشعر، وبالتحديد في الشعر الجاهلي، عندما يُذْكَرُ الشعراء تُذْكَرُ الخنساء من بينهم . تُذْكَرُ وحدَها تقريباً . وهي من الناحية الفنية ليست في مستوى امرئ القيس أو لبيد أو النابغة أو الأعشى أو زهير . . . إلخ . ولا يُذْكَرُ عادةً لها من الشعر سوى قصيدتها في رثاء أخيها صخر . كأنها تُذْكَرُ بين الشعراء الجاهليين لكي يكونَ للمرأة تمثيلٌ في الشعر الجاهلي . كأنها تُمنَحُ أسباباً تخفيفيةً لكونها امرأة . وإذا ما تقدّمْنا في الزمن، من القديم إلى الحديث، لرأينا أنّ النساء اللواتي يُذْكَرْنَ بين الأعلام في تراثنا الشعريّ لم يقدِّمْنَ مساهماتٍ جليلة، وإنما تُنْسَبُ إلى الواحدة منهنّ أبياتٌ قليلة، وقد تكون النسبةُ غيرَ صحيحة، بل هي في الغالب مشكوكٌ فيها . هل نذكرُ على سبيل المثال ولّادة بنت المستكفي، أو رابعة العدوية، أو ليلى الأخيلية، أو عليّة بنت المهدي . . . أو غيرهنّ؟ وهل نقول إنّ الأشعار المنسوبة إليهنّ ترْقى إلى مرتبة الأشعار التي نظَمَها الأعلامُ المرموقون من شعرائنا (الرجال)؟
وإذا ما وصلْنا إلى الحديث والمعاصر من أدبنا العربيّ، وجعلْنا الكلامَ على الشعر وغيره من أنواع الأدب، كالرواية والقصة والمسرحية . . . وما إلى ذلك، هل نقول إنّ المساهمات النسائية قد تقدّمتْ أو تحسّنتْ بالمقارنة مع مساهمات الرجال؟ ربّما، ولكنْ ليس على نحْوٍ يُقيمُ التكافؤ بين المرأة والرجُل، أو يجعلُها ندّاً له .
فالنساء الأديبات ما زِلْنَ يُمنَحْنَ أسباباً تخفيفيةً لكي يُذْكَرْنَ في الدراسات أو الأنطولوجيات، وذلك على سبيل التشجيع أو الممالأة في الغالب، وأحياناً قليلةً على سبيل الإقرار بالكفاءة والتميّز .
إزاء هذه الصورة التي قدّمناها، قد يقولُ قائل : إنّ المرأة بطبيعتها ليست مؤهَّلةً، كالرجُل، للقيام بأعمالٍ معيّنة، منها الكتابة الأدبية، أو الفلسفية، أو التاريخية . . . أو غير ذلك . ولكنْ، إزاء هذا القول، يمكننا طرْحُ السؤال الآتي:
هل المرأة هي المسؤولة عما تعرّضتْ له عبْرَ الزمن من تضييقٍ واضطهادٍ وإقصاء؟
إنّ الواحدَ من هذيْن السؤاليْن يتطلّبُ دراساتٍ وتحليلاتٍ طويلةً عريضة، وأنا في هذه المقالة لا أرْمي إلى شيءٍ منها، وإنما أكتفي، على سبيل الاقتراح الذي لا يحتاجُ إلى مسوِّغاتٍ كثيرة، بالدعوة إلى أنْ يكفَّ الرجُل (الكاتب) عن النظر إلى المرأة وكأنها مجرّدُ موضوعٍ من موضوعاته، وإلى أنْ يقتنعَ بأنها ندٌّ له، خصوصاً عندما تُتاحُ لها الفُرَصُ التي تُتاحُ له .
_________
*ملحق (الخليج) الثقافي
-اللوحة من اختيار (ثقافات) وهي للفنانة الإيرانية غولناز فتحي .