موسى إبراهيم أبو رياش*
( ثقافات )
“نبع الحكمة” كتاب مختارات للروائي البرازيلي باولو كويلهو، وقد برزت مهارته في اختيار القصص الذكية المعبرة، والحكم والأقوال الدالة العميقة. وهذا الكتاب اللطيف يعبر عن تواضع كويلهو وأنه لا يجد غضاضة أن ينقل لغيره، ويعجب بأقوال الآخرين، ويسردها في كتاب يحمل اسمه، في حين نجد آخرين أقل منه شأناً يأنفون أن يقرأوا لغيرهم ناهيك أن ينقلوا عنهم.
والكتاب كما جاء على غلافه الأخير: “يتناول توليفة من الرسائل والنصائح للروائي البرازيلي باولو كويلهو بالإضافة إلى سلسلة من الأوصاف لاقتباسات من أقوال المفكرين والحكماء والفلاسفة والفنانين والكتاب والأمثال الشعبية والحكم من كل أنحاء العالم، يمكن أن يستخدمها الإنسان ويستفيد منها عندما يتعرض لمواقف معينة, أو بمعنى آخر كيف يخرج الإنسان من فخاخ الروتين اليومي.
تحمل هذه المواقف أو النصائح روح الفلسفة التي تغوص بعمق داخل النفس الإنسانية والتي يحتاج إليها الإنسان كي يستطيع أن يعيد أفكاره وأوضاعه عندما يتعرض لموقف ما.
فالكتاب يمثل خلاصة عصارة أفكار الروائي التي تساعد كل إنسان على التغلب على مشاكله وفتح آفاق جديدة في الحياة.”
وقد قسم الكتاب إلى أربعة فصول هي:
الفصل الأول بعنوان قصص، وقد تضمن اثني عشرة قصة تراثية أو شعبية أو رمزية، حملت عبراً ودروساً وتجارب إنسانية غنية، ومن هذه القصص قصة “البحث عن المطر”، ونصها: “بعد أربع سنوات قضاها الكاهن في قرية صغيرة جمع أهل القرية ليصعدوا إلى الجبل ليدعوا الله طالبين هطول المطر وفي وسط الناس لاحظ الكاهن شاباً صغيراً يرتدي تياباً كثيرة ويغطي نفسه بمعطف ثقيل جداً فقال له الكاهن: هل جننت؟! إنها لم تمطر منذ خمس سنوات وأنت ستموت من الحرارة وأنت تتسلق الجبل.
فرد الشاب: أنا مصاب بالبرد.. وإذا كنا صاعدين لندعوا الله حتى يهطل المطر فهل تتخيل كيف سيكون الجو بارداً ونحن عائدون أدراجنا من فوق الجبل؟ من الأفضل إذاً أن نستعد لهذا.
وفقط بعد هذه الكلمات سمع الجميع قرقعة في السماء وبدأت أولى قطرات المطر تنزل على رؤوسهم.
“فإيمان الشاب الصغير قد فعل معجزة كان يصلي لها آلاف الرجال”.”
كما تلفت النظر قصة جميلة رائعة بعنوان “لماذا نصرخ؟”: جاءت على شكل حوار حكيم:
“سأل معلم تلاميذه: لماذا نصرخ عندما نكون غاضبين؟! لماذا يصرخ الناس في بعضهم عندما يكونوا غاضبين؟!
فرد أحد التلاميذ: لأننا نفقد هدوءنا لذلك نصرخ.
فرد المعلم: ولكن لكاذا تصرخ وهذا الشخص بجانبك؟! أليس من الممكن أن نتحدث إليه بغضب ولكن بصوت هادئ؟! لماذا نصرخ في بعضنا البعض عندما نغضب؟
سأل المعلم مجدداً فرد عليه التلاميذ بعدة أجوبة ولكنها لم ترضه.. فشرح لهم المعلم قائلاً: عندما يغضب شخصان من بعضهما تصبح المسافة بين قلبيهما بعيدة جداً لذلك يضطرون للصراخ ليسمعوا بعضهم.. وكلما غضبوا علا الصراخ حتى يستمعوا لبعض عبر تلك المسافة العظيمة بين قلبيهما.. لذلك عندما يقع اثنان في الحب لا يصرخان في بعضهما لأن قلبيهما قريبان جداَ فالمسافة بينهما تصبح صغيرة جداً.. وأخيراً قال المعلم: ولكن ماذا يحدث عندما يحبان بعضهما أكثر؟! لا يتكلمان فهما يهمسان فقط ويقتربان من بعضهما أكثر في حبهما… وأخيراً فهما لا يحتاجان حتى إلى الهمس يكفي أن ينظرا إلى أعين بعضهما فقط وهذا مدى قرب شخصين يحبان بعضهما بشدة.”
الفصل الثاني بعنوان “قصص قصيرة” ويتألف من إحدى وثلاثين قصة أو حكاية أو لقطة، ويكاد لا تختلف عن الفصل الأول، ومن قصصها قصة “الدلو المثقوب” ونصها:
“كان رجل يحمل الماء كل يوم من مكان بعيد إلى قريته في دلوين كبيرين ويسحبهما على لوح خشبي طوال الطريق.. أحد الدلوين كان قديماً وبه ثقوب والآخر كان جديداً وجيداً جداً وكلما قطع الرجل تلك المسافة إلى بيته كان يصل الدلو القديم وبه نصف كمية الماء.. لمدة عامين قطع الرجل تلك المسافة يومياً0 وكان الدلو الجديد يتفاخر بقوته وباستطاعته إتمام عمله كاملاً كل يوم. أما الدلو القديم فكان يشعر بالخجل لأنه كان يقوم بنصف المهمة فقط على الرغم من أن ذلك سببه العمل بكد وجهد يومياً لأعوام كثيرة فقرر التحدث لصاحبه ذات يوم قائلاً: أنا أريد الاعتذار منك لعدم إيصال كل الكمية يومياً ولكن هذا بسبب العمل المضني لأعوام طويلة.
فرد الرجل قائلاً وهو يبتسم: إذاً انتبه إلى جانبك من الطريق ونحن عائدون للمنزل.
ففعل الدلو ووجد الكثير من الزهور والنباتات قد نمت.
فقال له الرجل: أترى كم هي جميلة الزهور والنباتات والطبيعة على جانب الطريق؟ لقد كنت أعلم دائماً أنك مثقوب فقررت الاستفادة من ذلك وزرعت الكثير من الحبوب والزهور ونباتات الفاطهة والخضر… وقد رويتهم أنت دائماً بنصف ما تحمل فأخذت الكثير من الزهور لتزين منزلي وأطعمت أطفالي الفاكهة والخضر.. إذا لم تكن مثقوباً فكيف لي أن أفعل ذلك؟!
كل منا في مرحلة ما يكبر في العمر ويبدأ في الحصول على قدرات جديدة يمكننا دائماً البحث عنها والاستفادة منها للحصول على أفضل النتائج.”
كما نجد حكمة عميقة وعظيمة في قصة “التضافر والوحدة” التي تقول:
“خلال العصر الجليدي مات الكثير من الحيوانات على الأرض بسبب البرد، فقررت القنافذ التلاحم مع بعضها، مكونة درعًا ضد البرد حتى يحموا بعضهم من خطر الأنقراض. لكنهم جرحوا بعضهم بشدة بأشواكهم، فقرروا الابتعاد عن بعضهم.. بدأ البرد يقتلهم، لذا كان أمامهم اختياران: إما الموت بردًا، أو التلاحم وقبول كل منهم أشواك جاره.
لذلك بحكمة قرروا الالتحام مجددًا، فتعلموا أن يعيشوا مع الجروح التي قد يسببها تقاربهم، لأن الأهم هو الدفء الذي يصدر من الآخرين… وفي النهاية نجو معاَ.”
وجاء الفصل الثالث بعنوان “حكم قصيرة” وعددها مائة وسبع حكم، وكلها كما يظهر منقولة ومنها:
– “في رحلتنا في الحياة نجد أنفسنا في بعض الأوقات مرغمين على تغيير طريقنا.”
– “أحيانا تأتينا النعمة عبر النافذة محطمة الزجاج.”
– “في المرسى تصبح كل السفن آمنة ولكن هذا ليس الهدف من صنع السفن.”
– “عندما نؤجل حصد ثمارنا تفسد وعندما نؤجل حل مشاكلنا تنمو.”
– “في زمن الكذب تصبح الحقيقة ثورة.”
– “إن الله يحكم على الشجرة من ثمارها وليس من جذورها.”
الفصل الرابع بعنوان “محارب النور”، وتضمن ست وثلاثين عبارة، وعلى الأغلب فإنها نصوص لكويلهو نفسه، وقد اخترنا منها:
– “محارب النور يعرف أن على المعركة التوقف أحياناً.”
– “محارب النور ينتبه حتى للأشياء الصغيرة لأنه يعلم أنها قد تعيقه.”
– “محارب النور لا يذهب للمعركة قبل أن يعلم حدود حلفائه.”
ويؤخذ على الترجمة ضعفها في بعض الفقرات، التي تحتاج إلى إعادة صياغة، تزيل عنها عوارها، وتعيد لها بهائها، فلا يمكن أن تلتقي الحكمة والركاكة معاً. كما لوحظ بخل معيب في استخدام علامات الترقيم، مما أخلَّ ببناء النص وربما بالمعنى أحياناً.
وبعد، فكتاب “نبع الحكمة” لكويلهو(ترجمة شادي ناصيف، دار الكتاب العربي)، كتاب لطيف طريف، عميق الدلالة، سهل القراءة، ممتع جذاب، وفيه عبرة وحكمة لمن أراد، وتسلية لمن أحب، وزاد لمن عزم على المسير.
* قاص وناقد من الأردن