*عدنان حسين أحمد
يحتفي متحف الفن الحديث بالعاصمة البريطانية لندن بإقامة المعرض التشكيلي الأول للفنان السوداني إبراهيم الصلحي انطلاقا من 3 يوليو/ تموز الماضي وإلى غاية 22 سبتمبر/ أيلول القادم، حيث عرضت له “100” لوحة فنية تغطي أكثر من خمسة عقود من حياة هذا الفنان المتميز الذي يعتبر رمزاً للحداثة التشكيلية في القارة السمراء. فلا غرابة إذاً أن يُطلق على معرضه الشامل إسم “رؤى الحداثة”.
تتنوع موضوعات المعرض وثيماته الفنية التي استمد غالبيتها من طفولته ومرابع صباه وشبابه، بل هو يعتبر هذا المنجز الفني الكبير جزءاً أساسياً من ذاكرته الفردية ولاوعيه الخاص الذي تشكّل في أم درمان، ثم تعزّز رويداً رويداً بالمُعطيات الجمالية التي كان يمتّحها من عناصر الطبيعة وملامح الوجوه السودانية المعبِّرة، قبل أن يغوص في الموروث الديني والروحي والأسطوري للشعب السوداني الذي تمثّله لاحقاً وظل يتأمّله، ويستخرج منه الدرر الفنية التي تألقت في لوحاته التي تنطوي على ثيمات غريبة بعض الشيء. لا يمكن بطبيعة الحال الوقوف عند المئة لوحة هذه، لذلك سننتقي بعض المحاور التي تسلِّط الضوء على أنساق تجربته الفنية التي تجمع بين الموروث والحداثة في آنٍ معا.
شجرة الحراز
تحتاج معظم لوحات الصلحي إلى مساحة من التأمل والتفكير وإطالة النظر، ذلك لأنه بطبعه كان ميّالاً للخلوة الذاتية التي تعلّمها من الدروس الدينية وحفظ القرآن الكريم، بل إن استلهامه للأحرف العربية في لوحاته ناجم عن تلك الخلوات الدينية في السنوات الأولى من حياته في ثلاثينات القرن الماضي. وأكثر من ذلك فهو يعوِّل على مخزونه المرئي وذاكرته البصرية، التي أدمنت النظر إلى الطبيعة السودانية بترابها ومائها وشجرها وسمائها الصافية. من هنا فإن المعطى البصري الأول قد يتجسد في اللون الترابي للأرض السودانية التي تتأرجح بين الأمغر الأصفر والأمغر الأحمر، بما أنهما اللونان الشائعان في الطبيعة السودانية. ولكي نثبت تعلّقه بعناصر الطبيعة السودانية تحديداً، لا بدّ لنا من الوقوف عند شجرة الحرازة أو “الحراز” التي وظّفها كثيراً في أعماله الفنية بطريقة تجريدية وتكعيبية متداخلة. فهذه الشجرة لها قدرة كبيرة على التكيّف والبقاء في المناطق الجافة. وربما ذهب الصلحي أبعد من ذلك، حينما اعتبرها معادلاً موضوعياً للإنسان السوداني المُكافح الذي يصبر على الظمأ، ويقاوم شظف العيش، ويتحدى قسوة الحياة. ومن المظاهر الغريبة لهذه الشجرة أنها تفقد أوراقها في موسم المطر، فبينما تكون كل الأشجار مورقة ويانعة وخضراء تقف شجرة “الحراز” عارية، لتؤكد للذاكرة الشعبية السودانية “حربها مع المطر”، ولهذا ذهبت هذه الحكاية مذهب الأمثال في القطيعة والعداوة، لذلك يقول السودانيون “ما بيني وبين فلان ما بين “الحراز” والمطر”!
ثمة لوحات عديدة مستمدة من التكوينات الكلية أو الجزئية لشجرة “الحراز”، فثمة خطوط خارجية تحيل إليها، وتستنطقها لتخلق منها أشكالاً فنية تمزج بين ثلاثية التشخيص والتجريد والتكعيب، ليقدّم لنا أعمالاً فنية تخلو في معظم الأحيان من التسميات التي لا يحبّذ أن يذيّل بها عمله الفني، لأنه يعتقد أن التسمية من مهمة المتلقي العضوي، الذي يشارك في خلق العمل الفني بواسطة آلية التلقي الانفعالي، الأمر الذي يدفعه لأن يندمج في العمل الفني ويتماهى فيه، إلى الدرجة التي يرى فيها أحاسيسه وانفعالاته الداخلية مُجسّدة على السطح التصويري، وهذا ما نراه في بعض لوحاته مثل “الأصوات المُستعادة لأحلام الطفولة”، و”صورة البراءة: الشجرة الأولى”، و”رؤيا الضريح” وغيرها من الأعمال التي تدور في هذا الفلك.
الصرخة الاحتجاجية
ثمة تركيز واضح على الشخصية السودانية أو الأفريقية بشكل أعمّ، فقد أنجز الصلحي لوحة “بورتريه شخصي” عام 1961، لكن اللافت للنظر أن هذا العمل يحيل إلى العديد من أعمال بيكاسو من جهة ومودلياني من جهة أخرى وأدوار مونك من جهة ثالثة، غير أن هذه الإحالات لا تُفقد اللوحة أصالتها وخصوصيتها السودانية على وجه التحديد. ما يهمنا في هذه اللوحة هو روحها التي تكثّفت في العينين الثاقبتين، وفي الصرخة التي يُطلقها الفنان نفسه، صرخة إنسان سوداني بامتياز، تذكرنا باحتجاجه الكبير على أشياء كثيرة من بينها حبسه في سجن “كوبر” مدة ستة أشهر، التي وفرّت له بالتأكيد مساحة واسعة من التأمل العميق.
ولا شك في أن قوة اللوحة عند الصلحي، إنما تعود إلى كونه مصمما،ً حيث درس التصميم، إلى جانب الرسم واللون، في كلية غردون التذكارية عام 1948، قبل أن يحصل على بعثة دراسية في مدرسة “سليد” للفنون بجامعة لندن في النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي. من هنا فإن رصانة اللوحة عند الصلحي متأتية من بنائها المحكم، ودرجاتها اللونية الجذابة، حتى وإن اقتصرت على الأسود والأبيض والأمغر الترابي، أما خطوطه الانسيابية المرنة فهي نتاج خبرته الفنية العميقة في الجانبين النظري والعملي.
_______
*(العرب)