البشر يغيّرون . . لا مصابيح السحرة


*محمد الأسعد

في الخطابِ العربي المعاصر، أي في المرجع الأساس الذي تنطلق منه البحوثُ والأفكارُ والفنونُ، ثمة فكرة عن الإنسان لم تتغير منذ بضعة قرون، بينما الإنسانُ في الكون صورة أولية تتغير بتغيرها مسارات التطور ذاتها .

ويُرجع البعضُ نهضة الغرب المعاصرة إلى مسألة بسيطة، ولكنها انقلابٌ خطير، في الكشف عن مركزية الإنسان في العالم، وما استتبع ذلك من نتائج في شتى المجالات العلمية والثقافية والاجتماعية .
في الخطابِ العربي صورة تقليدية عن الإنسان لا تقبل التغيير، ثابتة مهما اختلفتْ صيغُ هذا الخطاب، أو الفلسفات التي تقف وراءه، صورة تعرضها الأدبيات التقليدية، وإن تجاوزنا ذلك، وجدناها في المشتهى كما يتخيلهُ دعاة التطور . الغائبُ هو نقد صورة الإنسان نفسها، أو طرحها، بوصفها صورة متغيرة تكويناً ومصيراً عبر التاريخ .
الجدلُ الراهنُ لا يبتعد عن تأكيدِ الصورة الأصلية الثابتة وإن اختلفَ حول بعض المظاهر، وسواء تعلق الأمرُ بالفكرة الأساسية عن الإنسان، حاجاته وطموحاته ومصيره أو معناه بالأحرى، أو تعلق بما يحيط به وعلاقاته بمحيطي الزمان والمكان، فإن صورته المألوفة هي صورة كائن يتطلع إلى اللحظة التي يمسك فيها بمصباح علاء الدين السحري، ويطلب من المارد الطيّب أطايبَ الطعام أولاً، والمسكن ثانياً، والزوجة الملكية ثالثاً .
علاء الدين يقف كنقيض كامل لساحر العصور الوسطى الأوروبية، “فاوست”، ذلك الرمز الكبير الذي يختصر في شخصه وسيرته صورة إنسان العصور الحديثة، والمقارنة بين الشخصيتين ستوضح الفارق الكبير .
علاءُ الدين، وفق الأسطورة، يدخل الكهفَ وحيداً، ولا يحاول العثورَ على طريق للخروج . إنه ينتظر المعجزة التي تأتي من الخارج، من المصباح والمارد . هنا يحدث الأمرُ ذو المغزى . يأتي الماردُ، فيطلب منه علاءُ الدين أن يأخذه إلى ضوء الشمس، ثم تتوالى الطلبات، وكلها تتعلق بالاستهلاك، حتى ليخيّل للمرءِ أن علاء الدين هذا أكبر حيوان استهلاكي في التاريخ .
حين يستحضر “فاوست” الماردَ أو الشيطان، يختلف المسارُ والنتيجة، “فاوست” يطلب المعرفة أولا، ولو ببيع روحه للشيطان، ويحظى بالمعرفة بالطبع، رغم أن الأسطورة تجعل نهايته مروعة تحذيراً للناس من إغراءات المعرفة، ومع توالي القرون يجيء الشاعرُ الألماني “غوته” فيغير النهاية تغييراً دراميا، لأن من يطلب المعرفة لا يستحق هذه النهاية المروعة .
* * *
منذ أن غادر علاءُ الدين كهفه، كما دخله ساذجاً، وحتى هذه اللحظة، لم تتجاوز فكرة الخطاب العربي عن الإنسان هذا الكائن الخرافي الذي امتلك كل شيء بالمصادفة، ومن دون جهدٍ يذكر . دخل الكهفَ صبياً وخرج منه صبياً، لم يمر بتجربة، ولا عانى لحظات النمو والتغيير والنضوج جسدياً ولا فكرياً .
هذه البساطة التي تحدث فيها الأحداثُ وتنقلب المصائرُ في حكاية علاء الدين، هي نفسها البساطة التي تعيش في أجوائها الخطاباتُ العربية: سياسية أو ثقافية أو فنية، إنها الفكرة الثابتة عن الإنسان ومصيره . كائن ينتظر المعجزة، ولا يعرف أن البشر منذ العصر الحجري يصنعونها لا مصابيح السحرة . لهذا السبب ربما لم يمرّ الوطنُ العربي منذ قرن تقريباً بلحظةِ انقلاب حضاري واحد، رغم تكاثر وتناسل مصطلحات الانقلاب والتجديد والتحديث والثورة، بل تعاورتها شتى التيارات كما تتعاور المياهُ الصخور الراسخة، فتمضي الأولى إلى حال سبيلها بين عقد وآخر، وتظل الثانية قائمة في مكانها .
ورغم الصخب السياسي وضجيج المعارك، الحقيقي منها والوهمي، لم يكن موضوع الصخب والضجيج يقظة على فكرة للإنسان جديدة في عالم استبدل أفكاره عن الإنسان مراتٍ ومراتٍ، وتقدم أشواطاً بعيدة في فلسفته ونظمه وعقائده ومنجزاته في ضوء الصورة المتغيرة .
وبقدر ما كان ميلاد صورة جديدة لفكرة الإنسان محدِّداً لمسارِ التطور الإنساني، بقدر ما ظلتْ استعادة فكرة الإنسان المكرورة عائقاً أمام تقدم الوضعية العربية تقدماً جذرياً من ذلك النوع الذي يطلق عليه نهضة أو يقظة، وليس من المبالغة في شيء تشبيه أنشطة الانقلابات السياسية، بمختلف تسمياتها، وتغيير البرامج الحزبية، باستبدال طرق بطرق أخرى سعيا وراء العثور على مصباح علاء الدين أو العصا السحرية التي تقلب كون الإنسان، فتحول الكوخَ إلى قصرٍ، والمائدة العارية إلى مائدة عامرة .
* * *
صورة الصبي علاء الدين، الموسوم بأنه الوحيد القادر على دخول الكهف والعثور على المصباح، لا تختلف عن صورة المثقف العربي (النهضوي أو مفكر الحزب أو الزعيم) الذي يعتقد أنه الوحيد المقدر له أن يقتحم كهوف السياسة المعاصرة ومعضلات المجتمعات العربية والعثور على العصا السحرية، ومن ثم تغيير الكون .
لم يكن الإنسانُ ولا صورته موضوع الاقتحام أو منطلقه، ولم يكن كذلك في الأدب والفن وشتى الأنشطة، لأن الصورة الموروثة بديهية لا تقبل النقض أو الاجتهاد حتى . وموضوع التغيير ورسالة الإنسان مسائل لا تناقش . وأية رسالة هي هذه؟
إننا لا نجد انقلاباً على صورة الإنسان الموروثة، لا غاية ولا مساراً، وبالتالي لا نجد ما يلحّ على تطوير ذي أهمية تذكر على صعيد الفكر، أو أي مجال من مجالات تكييف علاقات الإنسان بالمؤسسات والأفراد والبيئة، وحتى معلمو الفلسفة الذين تبنوا أحدث الفلسفات المعاصرة لا نجد لديهم تبيناً إبداعياً، بل تطويعاً لهذه الفلسفات وانتقاءً يلائم صورة الإنسان الموروثة .
مدخل الانقلاب الحضاري كما نعتقد هو اليقظة على صورة جديدة للإنسان، أي اكتشاف معنى جديد له يختلف جذرياً عن المعنى السائدة حتى الآن، وهو ما حدث في انقلابات حضارية عدة تمثلت في أزمات فلسفية وفكرية عميقة، وولد تصورٌ جديد لمكانة الإنسان في الكون، وتحمل مسؤولية ما يتبع ذلك .
ولعل السمة الأساسية للانقلاب الحضاري عادة هي أنه يضع حداً لصورة علاء الدين السجين في كهفه في انتظار أن يلمح لمعة المصباح في الظلمة، ويستدعي المارد الطيب، ويقترح صورة جديدة لعلاء الدين مختلفة، لا ينتظر المعجزة، بل يصنعها ليخرج من كهفه ولو حفراً بأظافره، صورة يكون فيها علاء الدين مركزاً وليس هامشاً .
مثل هذا الإنسان هو الذي يتكون في الزمن، وعبر معاناته وصراعه للخروج من كهفه المظلم . وحين يخرج هذا الإنسان إلى ضوء الشمس سيكون مختلفاً، أكثر علماً وإدراكاً وتجربة، أكثر نضجاً عقلا وجسداً عبر جهد يديه وفكره . إنه إنسان النهضة .
________
*(الخليج) الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *