كأورفيوس الذي يذهب إلى المستقبل ولا ينظر إلى الوراء



*كرم نعمة

رحل هيني بالأمس في بلاده، بلاد يولسيس وجيمس جويس والجعة السوداء والقلوب التي أنهكتها ذكريات الحرب الأهلية، فهو أول شاعر إيرلندي حائز على جائزة نوبل منذ أن نالها وليام ييتس عام 1939.

لا أحد يشك بأن هيني، مثله مثل “الشعراء الشعراء!!” الذين يداعبون الموت كلما تلمسوا الحرف الأول من القصيدة، تمتع بموته المرتقب، لأنه كان دائما يتخيل نفسه كأورفيوس الذي لن ينظر إلى الوراء.
النوبلي الإيرلندي
يا للمرض، لن يصل متأخرا من شيموس هيني فأودعه في أمانة الموت، الذي لا أمانة له، بعد عمر 74 عاما في أحد مستشفيات دبلن.
شيموس هيني الذي عرفه الجمهور العربي بعد تتويجه بنوبل أرفع جائزة أدبية عالمية، نال بعدها جائزة اليوت الشعرية عام 2006، وبعدها بأربعة أعوام نال جائزة شعرية ثالثة. علما أن أولى الترجمات لشعره تمت قبل ذلك على أيدي عدد من النقاد والشعراء والمترجمين العرب، ولعل أبكر الترجمات وأفضلها كانت للناقد السوري صبحي حديدي، الذي أذن لـ”العرب” هنا بنشر بعض من ترجماته.
ولد هيني في مزرعة صغيرة بالقرب Toomebridge في مقاطعة ديري، بإيرلندا الشمالية، في عام 1939، كان الابن الأكبر لعائلة متنامية أشبه بالأسر الريفية في المشرق العربي، استذكر طفولته في السنوات الأولى من حياته، وكيف كانت العواطف شاحبة وواهنة حيال العالم الخارجي آنذاك.
إلا أنه حلق إلى السماء عندما غادر الحياة الزراعية نحو الدراسة في مدينة ديري بعد حصوله على منحة دراسية “ذهابي للدراسة أشبه بمغادرة الأرض للسماء”.
عندما يتذكر قصائده الأولى التي نشرها منتصف الستينات من القرن الماضي، وكيف ولدت بنبض قلم الرصاص، وكأنه يحفر على قشرة بطاطا، يكتشف بشكل متأخر كيف أن الشعر جلب له المجد في نوبل، وعلمه أن يغير في علائق الأشياء مع بعضها ليريح البشر.
هذا الجحيم
وربما لهذا السبب وصف الناقد ‘أنتوني ثوايت قصائد شيموس هيني بأنها أشبه بجذور الخضار!
عندما نشر قصائده الأولى عام 1964، كان المحرر الأدبي يتساءل آنذاك “من أين لك هذا الجحيم ياهيني”؟.
بعدها نشر العديد من القصائد وجمعها في مجموعات شعرية ما بين عامي 1970 حتى 1980، حيث كانت الاضطرابات تهز أيرلندا الشمالية بشكل لا يتزعزع. لا أحد ينسى مثلا قصيدته المعروفة “من جمهورية الضمير”التي أنشدها عام 1985، الأمر الذي دفع منظمة العفو الدولية إلى تسمية جائزتها باسم القصيدة. لأنه “سفير الضمير”.
بعد حصوله على جائزة ديفيد كوهين للتميز في الكتابة، اختار هيني عام 2009 أن يلخص إنجازاته في الشعر من خلال قراءة استحضرها من غنائية الشعر.
كتب كيف كان وزوجته ماري يقضيان الوقت مغمورين بالعسل، ويتخيل نفسه كأورفيوس الذي لن ينظر إلى الوراء.
ووصف باتريك كوريغان، مدير برنامج إيرلندا الشمالية في منظمة العفو الدولية هيني بعد ساعات من رحيله بأنه لم يتحدّث من خلال كلماته وأفعاله باسم الناس في إيرلندا فقط، بل باسم جميع الناس في مختلف أنحاء العالم”.
وقال إنه “ذكّرنا من خلال جمال كتاباته وأناقتها بالروابط التي توحّد واجبنا في الحفاظ على كرامة جميع الناس، وفقدت إيرلندا برحيله أسطورة، فيما فقد العالم عملاقا شامخا من الإنسانية”.
دموع على هيوز
عندما تفاعلت الأوساط الأدبية والدينية باختلاف قل نظيره مع تخصيص كنيسة وستمنستر قبل عامين ركن للشاعر الراحل تيد هيوز لتخليده كأعظم الأدباء البريطانيين، كان شيموس هيني أول من رفع صوته، وكأنه ينشد شعرأ لذاك الذي عاش زمن الدموع وانتحار زوجته سيلفيا بلاث، كثيرون شككوا في إنسانية هيوز، حتى إن منظمات نسائية اتهمته بقاتل زوجته.
قال هيني بعد أن أصبح هيوز أول شخصية أدبية يتم اختيارها بعد جون بيجامين ومنذ عام 1984، لتوضع له لوحة تذكارية في ركن أكبر الكنائس الإنكليزية وأهمها مع نبذة عن حياته ومقاطع من أهم قصائده، قال “إن هيوز يستحق أن يكون له ركن في هذا المكان التعبيري لأنه كان شاعرا للبصيرة بإحساس عال، ارتقى بفنية القصيدة وحلق بأجوائها”.
وكان شيموس هيني آنذاك من بين أهم الأسماء التي استشارها قس كنيسة وستمنستر في هذا الاختيار الباعث على الجدل، على الاقل بين المنظمات المدافعة عن حقوق المرأة. اضافة إلى اسماء أدبية ومؤرخين وأكاديميين بارزين، منهم الشاعر أندرو موشن والاكاديمي لورد براج.
هيني الذي ذرف الكلمات بدل الدموع في جنازة تيد هيوز عام 1998، كان أكثر المدافعين عن هذا الاختيار غير مبال بأي انتقادات دينية أو إنسانية.
وقال “تيد هيوز كان وصيا على الأرض في شعره، مثلما كان وريثا للغة شكسبير ووليم بليك وتعبيرتهما، وأضاف إليها نضجا معاصرا وحسية خلاقة، كما أنه أحد أهم الشعراء المسكونين بمصير هذا الكوكب في قصائده”. ويرى هيني ان تيد هيوز أكثر من جسّد المعنى الشامل للحياة على الأرض، وأصبح واحدا من طبيعة الوجود الحيوي والحسي للشعر في القرن العشرين.
واليوم يلحق هيني بهيوز في رحلته الأبدية، بعدما عاشا رحلة موت افتراضية مع كم من قصائد تقطر ألما مرة، ومرات تسفح الدموع في ممرات هذا العالم.
مختارات من قصائد شيموس هيني
ترجمة: صبحي حديدي
النبش
بين إصبعي وإبهامي
يربض القلم المقرفص؛ مستكينا دافئا
مثل مسدس.
وتحت نافذتي، يتعالى صرير صوت ناتئ
حين تغوص المجرافة في أرض الحصباء:
ههنا الوالد، ينبش. أتطلع صوبه
حتى يدنو كفَلُه الواهن من مراقد الزهور،
ويلتوي، مبتعدا مسافة عشرين سنة
منحنيا على إيقاع أثلام البطاطا
حيث ينبش. (…)
كان جدّي يجزّ من العشب في نهار واحد
أكثر مما في وسع أحد سواه في مستنقع «تونر».
وذات يوم حملت له الحليب في زجاجة
ذات سدادة ورقية فضفاضة. شمخ بقامته
ليشرب الحليب، ثم خرّ إلى الثرى
يحزّ ويجزّ بعناية، وينفث نثار التراب
على كتفيه، غارقاً أكثر فأكثر
في البحث عن العشب الطيّب. نابشاً.
الرائحة الباردة لتربة البطاطا، والخائض المتلاطم
للخُثّ(1) النديّ، وللحوافّ اليابسة لملمس حادّ
خَلَلَ جذور حيّة استفاقت في رأسي.
ولكن ما من مجرفة في يدي لأقتفي أثر الرجال.
بين إصبعي وإبهامي
يربض القلم المقرفص.
وبالقلم سوف أنبش.
“موت متحزّب للطبيعة” 1964
الكير
لست أعرف سوى باب واحد إلى الظلمة.
وفي الخارج ثمة جُزُعٌ(2) وطارات معدنية تصدأ؛
وأما في الداخل، فثمّ حلقة قصيرة الانحدار لسندان مطروق،
وذيل الشَرَر المروحيّ المباغت
أو لهسيسٍ عند تصلُّب حذوة في الماء.
ينبغي أن يكون السندان في المركز الوسط
قرنه مثل أحادي القرن(3)، في مربّع جهةٍ ما، مقعياً هناك بلا حراك: مَذْبَحٌ
فيه ينفق نفسه هيئةً وموسيقى.
بصدّار جلدي تارة، وبشعيرات في أنفه،
ينحني نحو العضادة، ويستدعي قعقعة
حوافر الخيل حيث يتوهّج المرور في حلقات؛
ثم يصرّ بأسنانه ويمضي، بضربة داوية وبلسعة سوط
ليطرق الحديد الحيّ، ويوقظ المنفاخ.
«باب إلى الظلمة» 1969
سفر
الثيران تسند رؤوسها
إلى ضياء شمس الظهيرة،
والبطيخ الأصفر يذرع التلال كالنحاس:
الذي يقرأ في المسافات القصية، يقرأ
ما وراء نفوسنا، وما في دواخل أطفالنا النيام
ونثار النَقْع الراسب في عشب لفحته الشموس.
«إشتاء نحو الخارج» 1971
XXII
أين تقطن الروح؟ في داخلِ أم في خارج
ما نتذكّر من أشياء، ما نصنع من أشياء،
ما لا نصنع منها؟
من الذي وفَدَ قبل الثاني،
صرخة النورس أم الروح
حين صرختْ في المخيّلة ساعةَ فجر قارس؟
أين ستبيْت الروح أخيراً؟ على عصيّ الروث
في عشّ الزاغٍ، أعلى البرج الحجري
أم في تمثال نصفي من المرمر تأتمر بأمره الرياض؟
هل لنا في الشكل التامّ مأوى؟
وكم في وسعنا أن نقطن الضوء العاصف بالرياح؟
ما نفعُ نغمة موقوفة أو سطر موقوف
لا تُتاح الإغارة عليه بحثاً عن السكينة؟
(أحيلوا هذه الأسئلة على روح و . ب .(4).
«إبصار الأشياء» 1991
هوامش
(1) الخُثّ: نسيج نباتي نصف متفحم يتكوّن من تحلّل النباتات تحلّلاً جزئياً في الماء (المورد).
(2) الجُزْع: محور العجلة أو الدولاب.
(3) حيوان خرافي له جسم فرس وذيل أسد وقرن وحيد في وسط الجبهة.
(4) الشاعر الإيرلندي و. ب، ييتس هو المقصود هنا.
___________
*(العرب)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *