إذا كان العالم جميلاً فلِمَ هذه الضجة كلّها؟


*فاروق يوسف

“إلى أين نحن ذاهبان؟”، يتساءل المعلّم الريفي وصاحبة الحانة معاً ويمشيان. المرأة تقتفي أثر امرأة سبقتها، لتردّها إلى رشدها. هل انتهى زمن الغواية؟ الشمس تقيم في عمامة، أما الغنج فلا يفارق غرف النوم. النقاب يردع الميني جوب بأثر رجعي حتى وإن لم يلتقيا. نحن نُحدّث خزانة الوطن. نجدّد أبواب البيت. هناك حريق هائل في انتظارنا، ستكون الكتب والأفلام والصور والأشرطة والاسطوانات والرسوم والثياب حطبه ومادة خياله.

والتماثيل؟ مرئية وقليلة وهدمها يسير. والأفكار؟ دفنها يرمم عظامها، لذلك يفضّل أن تُغسل تلك العظام، وبعدها تنشر على الحبال لتجفّ. حياة محتملة بالفوتو شوب. كولاّج يهدد بنسف مصادره التصويرية. قمة اليأس صارت وراءنا. نمل سليمان نحن، ونحن امرأة أيوب، شبح ندمها في تراثه النائم تحت السجادة كالغبار القديم.
ينظّف المعلّم الريفي نظّارتيه. لصاحبة الحانة حق ديموقراطي في التراجع عن سؤالها الحائر. الحكاية تسيل على جدار المعبد الذي تزيّنه الزخارف بأقنعة الكلام. المعبد لهم ولنا الدروب الضيقة التي تحيط به.
مثلنا عاش قدري في المنتصف. منتصف النهار ومنتصف العقيدة ومنتصف الجنون. لكن أبقاره لم تكن هادئة مثله. في أحسن أحوالها كانت تلك الأبقار تسدّ الدروب الضيقة صباحاً فيعود الناس إلى بيوتهم وينام آخرون في الشارع. لن يكون المعبد فندقاً مجانياً. ولم يكن قدري إلا شاباً متاحاً لغرام الريفيات. أبقاره ليست له، بل هي لإمرأة غائبة. يقول انها ما فتئت تطارد عشيقها بين المدن. كم قطاراً ركبتْ؟ كم ناقة حلبتْ؟ غير أنها لم تضاجع إلا رجلاً واحداً وفي الحلم.
في حياة أخرى كنا ذلك البقر الهائم على وجهه في الدروب.
يهمس قدري جمله الخالدة في آذاننا. “دار دور. نار نور” نكرر. ننغم. نموسق. نرقص. ندور. نتعثر. ندوزن. نسقط. نضحك. ننعس. نبكي. نسيل. نتثاءب. نختفي. ليتك كنتَ معنا. ليت العالم يغفو ولا يستيقظ. ليت البنت التي عبرت متراً من الأشواق تصل إلى بيتها سالمة. هذا نهار طويل لا ليل له. هذا ليل مجنون، يهمّ بقساوسته ليبلغ بهم حافة الهذيان. ارقصوا لتجدوا الكلمة المفقودة. ليت هندا تحول بين المرء وقلبه. الوعد يقف بين العسس في نهاية الشارع فلا يتعرف إليه إلا العميان. ألمسك لتكون صديقي. نمشي في الدروب الجانبية ولا نسأل ضائعاً عن وسادته. نعرف أن قدري هو وحده من يحمل الحبل بيده وهو الذي سيشقّ الجدار ليستخرج بيديه جرّة العسل. ننصت إلى صوته ولا نراه. هذا الفصل يسيل على الحجر ليكون ناعماً. قال أحجية. بعضها من ثغاء الخراف والبعض الآخر من عيون الايائل.
مَن يرسم الابتسامات على الأبواب؟ تتنقل النشوة بين ظهور رعاة البقر. “كاوبوي لن يحمل معه أحداً إلى الآخرة”، تصرخ صاحبة الحانة. تستعمل الفتاة الواقفة على سطح الدار حبل الغسيل في صناعة مشنقة. هذا بقر تائه لا قرار لغربته. هذا بقر لا شبهة في مَن يروّضه أو يقوده إلى حتفه. لقد دخلنا البيوت من أبوابها واحتفت بنا أجراس الكنائس وصار المؤذّنون يتسابقون في اطلاق سراح ديكتهم. أيها العزيز هناك من هو أعزّ منك.
ما من يوسف إذا لم يكن هناك بئر. ما من بقر إذا لم يكن هناك قدري. إذا لم يكن جائعاً فسيقودنا إلى مطعم. إذا لم يكن عطشانا فسيقودنا إلى حانة. في انتظاره كان لجمالنا مراوح ولهلعنا سراديب، مزخرفة سقوفها ببيوت العناكب. حين سقطت الفكرة وضعناها تحت السكّين وصرنا نفكر في البصل. كم قشرة بصل تكفي لصنع دمعة؟ يضحك قدري: “تزرعون بصلاً وتفكرون في الأناناس”. كان الجمال يذهب معنا إلى المدرسة. كنا نصمغ أصابعنا بعسله لنمصّه أثناء درس الجغرافيا. ذكرى الحلوى تثير الفزع في أفئدتنا الخاوية فيما رحيقه يتسلى بعدد شهقاتنا. نجري بالبقر بين القارات على الخرائط الورقية. يجري بنا البقر بين الكواكب ليترك على أرض كل كوكب أثراً من رماد أقدامنا. كانت المياه تجري تحت أسرّتنا وكانت سقوف منازلنا من قش. من النافذة يمرّ معلّم القرية بعربته التي تنزلق على عقرب الساعة. الأرجوحة تعلو وتهبط بغجرياته النضرات. أبونا الذي يحلّق في غيبته، أخونا القادم من السهوب بنعاجه، رفيقنا النابت في العبارة مثل نكهة الزنجبيل. تيننا ورمّاننا وتوتنا وعنبنا. كنا ننتظره خلف الأبواب، في نعاس الأمهات، فيما الأبقار، أبقاره تلعق ظلالنا التي تمشي بحذر تحت شمس تموز. ألهُ قدمان يمشي بهما إلى النبع؟ ألهُ يدان يهشّ بهما أبقاره؟ ألهُ عينان يبصر بهما المسافة التي تفصل ما بين غرزتين في دانتيل الأنوثة؟
كنا نتذكره كمن يبحث عنه. نسكبه في الأواني، نغسله مع البياضات، نرشّه على الطعام. نستحضره في كيمياء النبيذ. تصفق لغته جناحي لقلقها في قيعان أرواحنا. كان معلّم القرية لا يزال يمسح نظارتيه فيما كانت صاحبة الحانة ترشّ الفلفل الأحمر على مزاجها. هذا نهار تصنعه نبوءات المراسلين الحربيين. لم يقل أحد “ان المدينة كانت تبكي” حين أخرج القنّاص رأسه من الكوة مبتسماً. فتح أصبعيه. قالت صاحبة الحانة: “مثل إله”.
على اللوح الأسود، قبل الدرس كان معلّم القرية قد كتب: “قدري قاد بقرنا”. احتفت الأبقار بفطنته. أبقار سوداء وبيضاء لم يرها أحد، غير أن خوارها كان يجد الطريق سالكة أمامه إلى غرف النوم. كنا نياماً وكانت المياه زرقاء تجري تحت الأسرّة. أسرّتنا التي تحيط بها الأجنحة. كنا نطير، يطير معنا أئمة جوامع وقسيسون وباشوات ومماليك ومحظيات وكتّاب عدول ومخاتير وقادة جيوش وحوريات وذوات كعوب عالية وراقصات ورعاة موسيقى وحرائر مخدرات.
كنا نطير فيمرّ الوقت. هل كان الوقت يمر حقاً؟ لو سألنا أحدا في نجد: “متى نصل إلى اليمامة؟”، هل كان يجيب؟ كانت أصواتنا تنمحي وسط قرع الطبول. قالت صاحبة الحانة: “طبول الحرب لا تعرف صديقا. البسوا قبعاتكم من أجل أن يتعرف إليكم العدوّ”. كان قدري لا يهوى شيئاً بقدر ما يهوى النسيان. “إن كان لكم عدوّ في إحدى ضواحي قلبي فسأتخلى عن تلك الضاحية لكم”. سمعنا وصدّقنا وأطعنا. لكن الأبقار الوحشية تجوس دروب الوطن ليلاً. حين الصبح، تضع الملائكة أيديها على رؤوس البقر فتحل السكينة ويهرب الخوف من النوافذ ليبقى موظذفو الوطن آمنين في أسرّتهم فيما الأمهات يهدهدن الطفل الأبدي.
حتى تضحك سيكون العالم أجمل. حتى تمشي سيكون العالم أقل. حتى تجري إلى باب البيت سيكون العالم أخف. ليس لك جناحان، ولكن يمكنك أن تطير. افتحي الخزانة يا أمي. أتريني طفلاً سعيداً؟ لقد سرقتنا الملائكة يا أمي. كنا نتذكر لكي نبحث، صرنا نبحث لكي نتذكر. إذا كان العالم جميلاً فلمَ كل هذه الضجة؟ كنا جميلين ونحن نكذب يا أمي. لقد ذهب معلّم القرية إلى السجن بعدما كتب جملته على اللوح الأسود. لقد حملنا طبشوره الأبيض للذكرى. يُخيَّل إليَّ أن قدري لن يكون بعدها مؤهلاً لكي يقود بقرنا. سيخرج الرجل مسنّاً فلا يستطيع أن يغادر كرسيه، وقد لا يكون قادراً على أن يتذكر أن أبقارا هائمة بين دروب قريتنا لن تروّضها إلا يداه. قدري الجميل نائم مثلنا. سريره ناعم وفي مخدته ينام ريش الطواويس. البقر هائم على وجهه. نحن هائمون. لكن قدري هو الآخر كان هائما.
_______
*ناقد وشاعر عراقي مقيم في السويد(النهار)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *