*فاروق يوسف
منذ سنوات دأب متحف الفن الحديث” في ستكهولم على الإقامة معارض إستعادية يسلط من خلالها الضوء على العلاقة بين الفنون المعاصرة، في محاولة نقدية للكشف عن التأثيرات المتبادلة بين تلك الفنون، والتي أعانت الفنانين على الخروج من الأزمات البنيوية التي كانوا يتعرضون لها، وهم يواجهون نهايات يائسة هي أشبه بالأنفاق المسدودة.
في هذا السياق يجيء المعرض الحالي “فن البوب والتصميم”، ليأخذنا من خلال ثمانين عملا فنيا عالميا في رحلة تمتد حوالي عشرين سنة من عمر علاقة يشبهها النقاد بلعبة كرة المنضدة، ففي الوقت الذي بدأت فيه تلك العلاقة من اللحظة التي أظهر فيها عدد من الرسامين رغبتهم في الانحياز إلى رموز وعلامات الحياة اليومية، فصاروا يستعيرون صور البضائع والأشياء المستعملة العادية التي أنتج مظهرها الجذاب مصممون مغمورون، فإنها انتهت إلى لحظة صارت فيها رسوم أولئك الرسامين مصدر إلهام للمصممين المعاصرين، في محاولة منهم لتسويق أعمالهم والترويج لها من خلال الاتكاء على أعمال فنية، صارت بالنسبة للجمهور العريض أشبه بالأيقونات، كما هو حال رسوم الفنان الاميركي أندي وارهول.
كانت حركة الفن الشعبي (بوب) قد بدأت في بريطانيا في السنوات المبكرة من عقد الخمسينات في القرن الماضي على أيدي فنانين شباب، جمعوا بين فني الرسم والفوتوغراف مثل ريتشارد هاملتون، غير أن تلك الحركة وجدت لها صدى واسعا وامكانية غير مسبوقة للانتشار في الولايات المتحدة، حيث صارت تدريجيا بمثابة الفن الرسمي الأميركي. لقد اكتشف الفنانون الأميركان أن في ذلك الاتجاه شيئا من روح أميركا، مزاجا يتعلق بالوقائع العابرة وثقافة تقدس العابر والقابل للاهمال والنسيان. لقد رسم روي ليختنشتاين صورا مستعارة من أفلام الرسوم المتحركة ومن المجلات المصورة، التي كان الأميركان يقضون أوقات رحلاتهم اليومية الطويلة في قراءتها، أما أندي وارهول، فقد وجد في صور النجوم (الشخصيات المشهورة سينمائيا وسياسيا) وفي البضائع التي لا يستغني الشخص العادي عن استعمالها في حياته اليومية (على سبيل المثال مساحيق الغسيل والمعلبات الغذائية) مادة لإلهامه التصويري.
خلق فنانو البوب صوراً سبقهم إليها مصمموا العلب والمجلات والمخازن التجارية. ولأنهم حولوا أساطير الشارع والحياة اليومية إلى أساطير فنية، بسبب اقبال المتاحف على اقتناء أعمالهم، اضافة إلى الجهد الذي بذلته الشُعب الثقافية التابعة لجهاز المخابرات الأميركية، من أجل الدعاية لتلك الأعمال في الخارج باعتبارها جزء من ثمار المخيلة الأميركية الخالصة، فقد صار المصممون المعاصرون مضطرين إلى استلهام تلك الرسوم واستعمالها من أجل انجاز أكبر قدر ممكن من الجذب والإثارة.
نرى في المعرض مصابيح حائطية ومنضدية وكراس من مختلف الأحجام ولمختلف الأماكن وصحفا ومجلات وإعلانات وأشياء منزلية كثيرة وملابس وأثاثا، كلها تدين من جهة تصميمها إلى فن البوب، باعتباره واحدة من أهم ركائز المزاج الثقافي الأميركي، وهو مزاج صار اليوم يلعب دورا كبيرا في التأثير على الذائقة الشعبية في مختلف أنحاء العالم.
بالنسبة للباحثين عن الفن العميق يبدو هذا المعرض سطحيا، ذلك لأنه يسلط الضوء على ذائقة شعبية، هي من وجهة نظرهم ليست من اختصاص المتاحف، غير أن المتاحف وقد شاركت في صنع تلك الظاهرة لم تعد ترى عيبا في الميل إلى الذائقة الشعبية، لا لشيء إلاّ لأن تلك الذائقة قد صنعت لها مسارا في تاريخ الفن، لا يمكن سوى الوقوف عنده واسترجاعه.
يذكرنا معرض ستكهولم بالأصول الجمالية للأشياء التي نستعملها يوميا، غير أنه في ذات الوقت يهبنا فرصة نادرة للاطلاع على ماضي اللحظات الجمالية، من خلال أفلام وثائقية استطاع صانعوها أن يؤرخوا لنوع فريد من العلاقة التي نشأت فجأة بين الفنان والواقع.
_____
(العرب) اللندنية