«تغريبة بني هلال».. ملحمة البطولة والفخر


*السيد نجم

يعد التراث الشفهي، من السير والملاحم والأغاني والأمثال والنوادر وغيرها، مدخلاً حياً ومتجدداً في الأدب الشعبي. وبالعموم، فإن الأدب الشعبي ظاهرة حيوية طبيعية، ارتبطت بالناس وهمومهم وأفراحهم. ومن بين أبرز ملاحم الأدب الشعبي، التي لم تفلح الأزمان في تغييبها، حكاية تغريبة بين هلال وقصة أبيزيد الهلالي التي تمثل ملحمة البطولة والفخار.

شخصية الهلالي
سلامة بن رزق بن نائل، هو من بني شعيثة بن الهزم بن رؤيبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، الهلالي العامري الهوازني. ونالت هذه الشخصية مكان الصدارة، ليس بين أبطال سيرة بني هلال، وإنما بين أبطال السير الشعبية.
وهو من أهم وأبقى الشخصيات ضمن الأعمال التراثية، تلك التي تحكي حياة البدو، بحثا عن المرعى والمياه وكيفية تقرب وتلاحم الثقافات والعادات بين القبائل العربية المختلفة. وتبدأ هذه السيرة ببيان المجتمع القبلي في الجزيرة العربية، عن طريق قبيلة بني هلال.
بنية الحكاية وتفاصيلها
تسرد “التغريبة”، ملامح وقصص موجة هجرة كبيرة قامت بها قبائل العرب، مخترقة مصر وحتى تونس، ذلك بعد ما مر بهذه الأرض من مجاعة أهلكت الجميع. وهي سيرة حافلة بالأبطال. فليسَ من بطلٍ واحدٍ تدورُ حولَه الأحداث. فهناك (أبو زيد الهلالي سلامة)، ذو السحنة السوداء، والذي يستخدمُ سحنتهُ مراراً للتنكرِ والتخفيّ.
وَالأمير الهلالي ذياب بن غانم، بطل قبيلة بني زغبة وفارسهم الأوحد. وَحسن بن سرحان، أمير القبائل الهلالية وصاحب الكلمة الأولى. وَالقاضي بدير بن فايد، الذي يلجأ إليه الأمير حسن للقضاء والمشورة. وَأيضا: الجازية بنت سرحان، أختُ الأمير حسن، التي عشقها أبو زيد ذو السحنة السوداء. وَكذلك الزناتي خليفة، ملك تونس الذي يحاولُ حمايتها من عدوان الهلالية.
وتتبدى ملامح الشخصية: أبو زيد الهلالي، كما حال الملاحم التي مهدت لولادة البطل بحادث جعله يبدو كإنسان خارق.
بدايات
أوردت الملحمة مبرراً للغزوة الهلالية التي اصطحب فيها أبو زيد من (شبوه)، عاصمة (حضرموت) سابقا، إلى بلاد المغاربة، خيرة الفرسان، ومن بينهم: يحيى ومرعي ويونس. وكان المبرر هو وقوع أولئك الفتيان الثلاثة في يد الخليفة الزناتي في مدينة تونس. واحتال أبو زيد وعاد إلى قومه، فما كان منهم إلا أن قاموا معه لتخليص الثلاثة وتحريرهم.
ومن هنا تنبع مقولة، ان بني هلال قبيلة عربية تغلب عليها الفاطميون بعد عدائها لهم، فنقلوها إلى صعيد مصر، ثم بدا لهم أن يتخلصوا منها نهائيا.. ومن أعدائهم في المغرب، فسمحوا لها بعبور النيل. وهكذا بدأت الملحمة في عام 1149م.
كما قيل ان قبائل هلال وسليم ودريد والأثبج ورياح، هاجرت من نجد، في منتصف القرن الخامس الهجري، واستمرت موجات الزحف لما يقرب القرن. وأن هذا الزحف جرى بتدبير الوزير اليازوري، وزير الخليفة الفاطمي في مصر، والذي منح المعز بن باديس، حاكم افريقية/ تونس، عام 435 هـ، لقب “شرف الدولة”، وبدلاً من أن ينحاز المعز بعد هذه المنحة، الى الخليفة الفاطمي، انحاز لعامة شعبه الذين ثاروا، وبالفعل نادى المعز باتباع مذهب الإمام مالك، وخطب في المساجد للخليفة العباسي القائم بأمر الله.
مبررات أخلاقية
غضب الخليفة الفاطمي في مصر، مما يحتسبه نصرا للخليفة العباسي في بغداد، فأشار عليه الوزير اليازوري، بتحريض قبائل نجد للزحف على تونس، فكان ما كان. ولكن صياغة السيرة تقدم مبررا أخلاقيا لهذا الغزو، ففي السيرة أن زناتة أو الزناتي خليفة، وحلفاءه، طمعوا في أرض يحكمها الأمير عزيز الدين بن الملك جبر القريشي، فاستولوا عليها بالخداع، فاستعان الشريف القريشي بأبناء عمومته من قبائل نجد، ليردوا الحق السليب.
محتوى السيرة
تضم السيرة الهلالية، خمسة كتب: الأول هو “خضرة الشريفة” ويتناول مأساة رزق بن نايل جرامون بن عامر بن هلال، قائد الهلاليين وفارسهم وأميرهم، والذي تعجب خضرة بخلقه وشهامته وفروسيته، رغم أن فارق العمر بينهما 45 عاما. والثاني هو “أبو زيد في أرض العلامات”.. إذ أتمت خضرة خمس سنوات في منازل “الزحلان” في كنف الملك فاضل، وما حدث لأبي زيد في بلاد الرحلان من علو المجد.
وفي الكتاب الثالث، يتخفى أبو زيد في ملابس شاعر رباب، ويدخل قصر حنظل بعد أن عرفت نساء بني هلال حقيقته، وتكتشف عجاجة، ابنة السلطان حنظل، حقيقة فارس بني هلال. فتبلغ أباها الذي يقيده بالسلاسل ويلقي به في السجن بانتظار شنقه.
أما الكتاب الرابع، فيبرز كيف خاض أبو زيد الأهوال ليعود بالفرس التي حكت عنها الأجيال، وفيه يحتال الدرويش لدخول جناح الأميرة لينجز لها عقدا، ويقرأ لها الطالع. وتكاد جارته تكتشف تسلله والهدف منه، لكنه يقنعها بدروشته وفقره.. ويرشيها أيضًا. ويسرد الكتاب الخامس كيف أسرت عالية، أبا زيد، بجمالها. وكيف ناضل هو ليقترن بها.
جوهر
يتمحور موضوع السيرة الهلالية، حول التجربة الحياتية للحلف الهلالي، المدافع عن قيم الأمة وشرفها. وهي تجسد المضمون الدارج في السياق، كعادة الملاحم، إذ تستنهض الأمم بذكر أمجادها وبطولات القادة الذين أنجبتهم أرضها في السلم والحرب، وتعيد تاريخ الأمة وتفسره بطريقة فنية، حسب معتقدات البسطاء.
نماذج من البطولات
“هلال” الجد الأكبر الذي تنتسب اليه القبيلة: “بني هلال”، أحد رجال الإسلام، الذين أبلوا بلاء حسناً في الدفاع عن الرسول الكريم محمد (ص)، في غزوة تبوك – هذا ما تذكره السيرة وإن كان غير صحيح – فاستحق بذلك التمجيد، ونال نسله فخر البطولة وشرف الفروسية.
ونجد في السيرة، انه عبر ملابسات معينة يتزوج رزق بخضرة الشريفة، ابنة الأمير قرضة الشريف، حامي الحرمين وحامل مفتاح الروضة الشريفة. وينجب منها: أبو زيد الهلالي سلامة.. ليكون بذلك جامع طرفي المجد، فهو بذلك شريف من نسل النبي (ص)، حسب السيرة، يأخذ ويرث من ناحية أمه الحكمة والعلم، ومن ناحية أبيه مجد البطولة وعنفوان الفروسية.
ولكن رزق، ينكر ابنه أبا زيد، ويتهم أمه (خضرة) بالزنى، فيطردها بينما ابنها لم يتجاوز من العمر الايام السبعة. ومن ثم تربيه أمه على الفروسية، بعد أن تلجأ الى حاكم مدينة العلامات الملك فاضل الزحلاني.
وتظهر على أبي زيد علامات النبوغ، ويستطيع في طفولته أن يخوض صراعا مع بني عقيل أعداء أهله، حتى يستعين مشرف العقيلي على أبي زيد بعدد من فرسان بني هلال، ومنهم عمه الأمير عسقل، الذي ساهم في طرد خضرة الشريفة من مضارب الهلالية، ويحارب أبو زيد فرسان الهلالية ويقتل عمه، ويأتي لأمه بــحقها بعد أن يعنف أباه الأمير رزق بن نايل.
عودة ميمونة
يعود أبو زيد إلى أهله بني هلال، ليصبح فارس القبيلة المغوار، وليقاتل العدو الأجنبي الذي هاجم الأراضي العربية، وتتوالى مغامرات أبي زيد الهلالي. ويخوض تغريبة طويلة عندما يرحل وقومه غربا، بحثا عن المرعى، بعد ثماني سنوات من الجفاف، لتتوالى فصول سيرته، فيرحل إلى تونس.
وتتوالى القصص الفرعية من مقتل مرعي وحب يونس لعزيزة.. والصدام الكبير بين أبي زيد وحاكم تونس خليفة الزناتي. أو حسب الروايـــة الشعبية: الزناتي خليفة. وتقوم الحرب بين بني هلال وحلفائهم قبائل الزغابة من جهة، وبني قابس بزعامة خليفة الزناتي (وأشجع فرسانه المسمى بالعلام) من جهة أخرى. وذلك بعد أن رفض الزناتي أن يحصل بنو هلال على المرعى في أراضيه، لينال جزاءه مقتولاً على يد دياب بن غانم، كما تنبأت سعدى الزناتي.
مقاومة أدبية
تمثل سيرة بني هلال، حسب مؤرخين ونقاد كثر، وإلى جانب الأسباب المهمة التي ازدهرت في ظلها، نوعا من الرد الادبي الشعبي على الغزو الصليبي ومن بعده المغولي، خلال تلك الفترة، والتي شهدت تدهور قدرات السلطة العربية. وتفككت فيها وحدة الأمة. كما تفشى الفقر وانتشرت المجاعة والفساد السياسي والاجتماعي.
في السينما
1947
قدمت السينما المصرية، فيلماً مستوحى من قصة “السيرة الهلالية”، بعنوان : أبو زيد الهلالي، من بطولة فاتن حمامة وتوحيد هلال. أخرجه عز الدين ذو الفقار.
في التشكيل
1908
إحدى الرسومات المصرية، التي تجسد السيرة وبطولاتها وشخصياتها. وتتفاوت وتتباين الأحاديث والتأويلات بشأنها، إذ يرجعها البعض إلى أزمنة قديمة جدا، أنجزت فيها.
_______
*(البيان)

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *