الأربعة العربية في مهرجان مالمو للسينما


*

انتقى مهرجان مالمو للسينما العربية في دورته الثالثة “16” فلماً وثائقياً طويلاً وقصيراً تميّزت بثيماتها الحسّاسة التي تستحق الرصد والمتابعة والتحليل من قبل النقّاد السينمائيين لأنها توفر لمتلقيها المتعة والفائدة، وتحفّزه على التفكير وإعمال الذهن. وقد توزعت ثيمات هذه الأفلام الوثائقية على محاور عدة أبرزها ظاهرة الأربِعة العربية في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا، ومعاناة الشعب الفلسطيني سواء في الأراضي المحتلة أم في المخيمات الفلسطينية في سوريا ولبنان والأردن. لم يدخِّر بعض المخرجين وسعاً في رصد موضوعات قديمة مرّ عليها أكثر من نصف مثل “يهود مصر” الذين غادروا أرض الكنانة واستقروا في إسرائيل. فيما ينطلق مخرجون آخرون من ثيمات صغيرة لمعالجة قضايا كبيرة مثل الحصار وجدران العزل العنصري. انتبه البعض الآخر إلى موضوعات حسّاسة جداً مثل المتاجرة بالأطفال الصغار وزجهم في مسابقات الهجّانة. إضافة إلى موضوعات أخرى مثل الطفولة، والصداقة الإنسانية العابرة للحدود أو بعض العادات والتقاليد الاجتماعية في هذا البلد العربي أو ذاك. ونظراً لكثرة هذه الموضوعات سأجد نفسي مضطراً لتناول بعض المحاور الأساسية التي تعطي فكرة شاملة للقارئ الذي يحب هذا النمط من الأفلام في أطر ثقافية واجتماعية ونفسية.

الأربِعة العربية
لابد أن تحتل الأربِعة العربية مساحة كبيرة من المحور الوثائقي لأي مهرجان سينمائي عربي على وجه التحديد، بل أن هذا المحور لم يفت المخرجين السينمائيين الأجانب الذين تناولوا موضوعات الأربِعة العربية من وجهات نظرهم الخاصة فلا غرابة إذاً حين تتضمن مسابقة الأفلام الوثائقية لوحدها خمسة أفلام متنافسة وهي “عيون الحرية . . طريق الموت” لأحمد صلاح ورمضان صلاح، و “عام بعد الربيع العربي” لعبدالإله أولي، و “لا” لهشام عبد الحميد، و “سنبقى صامدات” لهاجر بن نصر، و “حكايات حقيقية عن الحُب والموت وأحياناً الثورة”. يتناول فيلم “عيون الحرية. . طريق الموت” الأحداث التي وقعت في شارع “محمد محمود” عام 2012 حيث يقع مبنى وزارة الداخلية. كما يتناول الفيلم قصة المناوشات التي اندلعت بين العناصر الأمنية والمتظاهرين، هذه الحالة التي تكررت عشرات المرات ولا تزال تجد طريقها إلى الطرفين كلما هبّت ريح الغضب العمياء وأطفأت مصابيح العقول. سبق لمخرجَي هذا الفيلم أن حصلا على تنويه من لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان مالمو السينمائي عام 2011. وفي السياق ذاته يتجه فيلم “لا” للمصري هشام عبد الحميد إلى الربيع العربي أيضاً بالرغم من عدم ورود هذا التعبير في سياق الفيلم الذي استمر لمدة “70” دقيقة. فالفيلم صامت ويعتمد كلياً على فن التمثيل الإيمائي للتعبير عن الظلم والاستبداد، وقمع الحريات الخاصة والعامة، والتطرف الديني، والاحتكاكات الطائفية التي تحرّك الفتن النائمة. كما يستعين المخرج ببعض الصور والمَشاهد الوثائقية ليكشف في نهاية المطاف عن الأسباب والمحفِّزات التي تدفع المواطن العربي لقول كلمة “لا” بصوت مدوٍ أول الأمر ثم تتبعها الثورات الجارفة التي لا تُبقي ولا تذر. وقد صرّخ المخرج غير مرة بأن فيلمه لا يهدف إلى الإمتاع، وإنما يحّض على التفكير. بالرغم من دمويّة الربيع السوري إلاّ أنّ هناك أفلاماً تحاول أن تنقل الحقيقة كما هي عليه من دون رتوش وفيلم “حكايات حقيقية عن الحُب والموت وأحياناً الثورة” للمخرج نضال حسن الذي تدور أحداثه بين دمشق وكوبنهاغن يتحدث عن مُخرجَين من ثقافتين مختلفتين يحاولان أن يرويا قصص الحُب والحياة والموت الحقيقية في عمر الثورة. لم يخطر ببال نضال وليليبيث بأن يوم وصولها إلى دمشق في 16 مارس / آذار سيكون اليوم الذي يُسبق إعلان الانتفاضة في سوريا. يحمل نضال كاميرته ويصوِّر الحياة اليومية للسوريين بما تنطوي عليه من تناقضات شديدة تتوزع بين بشاعة الظلم وتباشير الأمل بغدٍ مشرق جميل. من الجدير ذكره أن نضال حسن مخرج مستقل وقد سُجن مرتين خلال تصوير هذا الفيلم المناهض لنظام الأسد وقد طُرد بسببه من المؤسسة العامة للسينما السورية. ومن أبرز أفلامه “بشرة مالحة” الذي يُعد حجر الزاوية في السينما السورية المستقلة. أما الفيلم الرابع فهو “سنبقى صامدات” للتونسية هاجر بن نصر الذي نتابع فيه الصراع ضد الدكتاتورية من خلال مشاركة عدد من النساء التونسيات اللواتي ينتمينَ إلى خلفيات ثقافية وطبقية مختلفة تمتد من قائد حزب معارض إلى مطربة لتنتهي بامرأة بسيطة سُجن ولدها بطريقة تخلو من الشفافية والاحترام. كما يكشف الفيلم عن مخاوف النساء اللواتي يواجهنَ تهديدات جديدة في تونس ما بعد الثورة التي لم تعرف إلى الاستقرار سبيلا. نختتم باقة أفلام الأربِعة العربية بفيلم “عام بعد الربيع العربي” للمخرج المغربي عبد الإله والي المقيم في هولندا حيث يتجه هو وزميلته الصحفية الهولندية أسميرالدا فان بون إلى خمسة من بلدان الربيع وهي بحسب تسلسلها في الفيلم مصر، تونس، ليبيا، المغرب واليمن آخذين بنظر الاعتبار أن الفيلم يركِّز على تظاهرات طنجة التي يطالبون فيها بالتغييرات في المجال الدستوري، وانتخابات سابقة لأوانها، ومحاربة الفساد والبطالة المقنّعة، وتأمين فرص العمل، وتعزيز حقوق المرأة وهو من أجمل الأفلام الوثائقية التي عالجت موضوع الربيع العربي لأسباب عدة من بينها درجة المصداقية العالية، وطريقة الأسئلة الدقيقة التي كانت تتوجه بها الصحفية الهولندية أسميرالدا فان بون وتستنطق المواطنين والمسؤولين الذين التقهم في خمسة بلدان عربية، كما اسهم هذا التنّقل في البلدان بكسر طابع الرتابة الذي تتميز فيه الكثير من الأفلام التي عالجت الربيع العربي على وجه التحديد.
_____
*(المدى)

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *