أمجد ناصر *
في العام 1976 وصلتنا إلى عمّان نسخة مصورة (بل ومهربة) من قصيدة “أحمد الزعتر”. كانت أول مرة أقرأ فيها شيئا لمحمود درويش، صعقني النص الملحمي المضفور باليومي، بالرثائي، بالغرائبي: “وأذهب بعيدا في دمي وأذهب بعيدا في الطحين لنصاب بالوطن البسيط وباحتمال الياسمين”. قرأناه ونسخناه ووزعناه برجفة توزيع المناشير السرية.
لم يكن هناك ما هو سري أو ممنوع، بالمعنى السياسي البسيط في القصيدة. لم يكن الحدث (مجزرة تل الزعتر، بيروت) الذي يرفعه درويش إلى مستوى نشيج النشيد هو الذي رجّف أعماقنا على فداحة ألمه، بل الشعر الذي يتعاقب في هذا النص الكبير موجة وراء موجة حتى تبلغ القلوب الحناجر.
لم يكن النص سهلا ويسيرا على الحفظ، رغم سيولته الإيقاعية، لكنني حفظت عن ظهر قلب، معظم أجزائه ورحت أرددها بالرهبة والامتلاء اللذين تُردد بهما النصوص الدينية. لكني لن أعرف شعر محمود درويش، حقا، إلا في بيروت التي سأفر إليها في العام 1977، هناك سأقف على جانب من المشهد الشعري العربي كان محجوبا عني، من ضمنه، العالم الكبير المتشعب لدرويش.
عالم ذو أطوار ومراتب، يعكس جانبا من أطوار القصيدة العربية الحديثة، ولكنه يبقى دائما (حتى من بداياته الأولى) خاصا وممهورا بتوقيع يصعب إخطاؤه. ومع قصيدة “كان ما سوف يكون” التي يرثي فيها صديقه الشاعر الفلسطيني راشد حسين تيقنت أنني على استعداد لأن أقع في هذا العمل المنثال من أعلى ذرى الشعر وينابيعه الممكنة.
وأسرني “ليديه الورد والقيد. ولم يجرحه خلف السور إلا جرحَه السيد، عشاق يجيئون ويرمون المواعيد. رفعنا الساحل الممتد، دشنا العناقيد، اختلطنا في صراخ الفيجن البري. كسرّنا الأناشيد. انكسرنا في العيون السود. قاتلنا، قُتِلنا. ثم قاتلنا وفرسان يجيئون ويمضون”.
لم أكن أعرف أنني على هذا الشغف بالغنائية. فلم أقع أصلا، على شيء من هذا الطراز من الغنائية. غنائية درويش الملتقطة اليومي والدارج والأسطوري بذكاء ونهم، المفتوحة على سؤال الوجود وأفق الملحمة.
مع “كان ما سوف يكون” و”تلك صورتها وهذا انتحار العاشق”، رغم اختلاف اللحظة والنفس بينهما وأعمال أخرى، أدركت أن علي لكي أكون شاعرا يرجى منه نفع أن أفرّ من محمود درويش.. فقد اكتشفت أنني مستعد أن أكون مقلدا جيدا لدرويش.
فقوة قصيدته وقدرتها على التغلغل في الأعماق وإمساكها الباهر، بالتفصيلي والنثري من جهة والغنائي والملحمي من جهة أخرى، لا تتركك، إن استسلمت لها، مجرد متأثر عابر وإنما مريد، بل قل أسيرا.
لم يكن للشاعر العراقي سعدي يوسف الذي حدد وجهتي الشعرية، منذ أيامي الأردنية، هذه السطوة. كان يمكن أن أتأثر به، كما هي حال إطلالتي الأولى وأجد بعد ذلك “طريقي”. مع محمود درويش لا يمكن أن نفعل ذلك، وإن تمكنت أن “تنجو” بنفسك فستظل، طويلا، تحمل وشمه.
لم أصبح درويشيا، لكن محمود درويش كان بين الذين أسهموا في تغيير مساري، وما إن بدأت دندنتي تتكون حتى قطعتها بحثا عن نغمة أخرى. كنت أريد أن أتخلص من الغنائية الكثيفة التي تحتلني وتوجهني وجهة لن يكون لي فيها سهم فرأيتها في “التفعيلة” فقطعت معها في حدة.
كان الجو الشعري اللبناني الذي انخرطت فيه ينظر إلى “التفعيلة”، كما تمظهرت في “الساحة الوطنية”، بصفتها عقبة أمام تطور القصيدة العربية. في هذا “الجو” تكونت أفكاري في خصوص الشعر “الجديد” وموقع “قصيدة النثر” فيه.
غادرت الوزن وانخرطت “مناضلا” (كما كان يحلو لمحمود درويش أن يصف مرحلة من حياتي الشعرية) في “قصيدة النثر”. كان هناك موقف متواطأ عليه بين شعراء قصيدة النثر من شعر محمود درويش، موقف مضاد، فهو كان سيد “التفعيلة” ونجم “القصيدة الوطنية” بلا منازع. ونحن كشعراء “جدد” كان علينا أن نحارب التفعيلة وأن نطرد “القصيدة الوطنية” من جنة الحداثة. بدا هذا من المهام العاجلة، التي لا تقبل المساومة، للنص الجديد.
سيمرّ بعض الوقت لكي أدرك أن درويش لم يكن شاعرا “وطنيا” ولا شاعرا “سياسيا”، ولا شاعرا “غنائيا” (بالمعنى القدحي الذي استخدمت فيه هذه المفردات الثلاث في أواخر الثمانينيات) بل شاعرا يخترق الحدود والتصنيفات. فشعره مزيج محكم من العاطفة الحارة والتأمل والتفاصيل اليومية على خلفية حس تراجيدي لا أظن أن له مثيلا في الشعر العربي.
وهو شاعر قلب بدليل أن لحظة الحب ومعجمها لا يتلكآن عن الحضور في معظم أعماله حتى تلك المحاطة بإكراهات الوضع العام وضغط الأهوال التي عرفها الشعب الفلسطيني. إنه العاشق الذي أطل جميلا ومفاجئا من غياب قاس، ومن غير توقع ليوصل الشعرية العربية إلى أرض جديدة. العاشق الذي يعرف الفرق بين المرأة والأرض فلا يصيران شأنا واحدا كما ألحف كثير من النقد العربي في القول. هناك امرأة وهناك أرض عند درويش ولا يستوي، رغم كونهما مؤنثين، أن يصيرا شيئا واحدا ودائما.
أليس من الممكن أن تكون المرأة، التي بدت طويلا للنقد والتلقي بوصفها أرضا، امرأة من لحم ودم وشهوات توارت وراء هذا الالتباس المشهود؟ فهل نصدّق الشعر أم نصدّق النقد؟ أنا أصدّق الشعر وأقبل لحظة التباس المرأة بالأرض عند درويش ولكنني لا أقبلها على طول الخط.
ثم إن محمود درويش شاعر موقف وقضية لكن شعره ليس شعر قضية، شعر يحمل رسائل ولكن ليس شعر رسالة. إنه في صورته العريضة شعر معني بالاقتلاع والنفي ومساءلة التاريخ وتفكيك رواياته السائدة. شعر مؤرق ومهجوس، بالعمق، بسؤال الأرض بصفتها الحيز الوحيد المتاح لنا أن نحيا فيه.
فالأرض والحياة هما من الثنائيات الأثيرة في شعره. وبقدر ما يمكن أن يحيلا إلى متعين وملموس لهما حضور وكثافة غير ممكن تجاهلهما في الحالة العربية (فلسطين)، بقدر ما بوسعهما أن ينطلقا من إسار هذين المتعين والملموس ليكونا مطلقين.
هكذا تنتقل “الأرض” من الحيز المحلي ذي التفاصيل الخاصة لتصبح أرضا كونية، تعني (وتمس) كثيرين. إنني أتساءل الآن، في حيرة، بعد أن تراجعت دعاوى “القصيدة الجديدة” ومواعظها المضادة هل يمكن أن يتخلص الشعر، مهما انغلق على ذاته وانصرف عن “الخارج” من رسائله ومخاطباته؟ ما هو الشعر ـ الشعر؟ وما هو الشعر ذو الموقف أو القضية؟ بكل قلق أقول: لا أدري.
– الجزيرة