*عدنان حسين أحمد
ينطوي فيلم «نبع النساء» لمخرجه الفرنسي المنحدر من أصول رومانية رادو ميهيلان على طُرفة لابد من إيرادها في هذا الصدد، لأن القصة السينمائية لهذا الفيلم مستوحاة تماماً من خبر نشرته وكالة «الأسوشيّتد برس» في 14 أغسطس 2001، ثم أعادت نشره صحف ومواقع عدة من بينها الـ(سي أن أن).
يقول الخبر (إن نساء مدينة سيرت القريبة من أناضوليا والواقعة على الساحل الجنوبي التركي، قد أعلنَّ الإضراب الجنسي احتجاجاً على انقطاع المياه عن منازلهنَّ واضطرارهنَّ للوقوف في طابور طويل أمام ينبوع يقطِّر ماءً، لكي يملأن أوانيهنَّ ثم يحملنَ الماء على رؤوسهن لمسافة طويلة، قد تصل إلى خمسة أميال، وأنهنَّ سيواصلنَ المقاطعة الجنسية ما لم يتم تصليح العطب الذي حصل في شبكة الأنابيب وإعادة المياه إلى منازلهن ثانية).
قد يبدو هذا الخبر فكهاً وطريفاً وأقرب إلى النكتة، ولكنه حصل بالفعل في قرية سيرت التركية، إذ صرّحت السيدة فاطمة ساري قائلة: (إنه أمر طبيعي، فعندما لا نستطيع أن نستحم ونغسل ملابسنا، فإننا لا نستطيع أن نقوم بأشياء أخرى)، ولا شك في أنها تعني بالأشياء الأخرى عدم قدرتهنَّ على ممارسة الحُب وهنّ متسخات، فلا غرابة أن يعلنَّ الإضراب الجنسي على أزواجهنَّ الذين يبدِّدون أوقاتهم في المقاهي، يثرثرون ويحتسون الشاي أو يلعبون النرد و»الدومينو» بينما تنهمك النساء بخدمتهم ليلاً ونهاراً. ربما لا يجد المتلقي الذي يشاهد فيلم (نبع النساء) شيئاً جديداً يمكن أن يضيفه إلى القصة السينمائية التي نحن بصددها، ولكنه سيعثر بالتأكيد على رؤى بصرية مدهشة، ومقاربات جديدة لم يألفها من قبل فلقد اختار المخرج ميهيلان قرية مغربية وعرة ونائية ومعزولة فيها ينبوع ماء جبلي يشق على الرجال الوصول إليه، فكيف بالقوارير الناعمات اللواتي لم يخلقنَ لهذا النوع من المشقّة.
سقوط درامي
إذا أردنا أن نتتبّع القصة السينمائية لهذا الفيلم الذي ينطوي على أكثر من رسالة فكرية واجتماعية وأخلاقية، فلابد لنا أن نقارن بين أوجه الشبه والاختلاف بين القصتين وهي ليست كثيرة على أية حال.
ففي القرية التركية ثمة عطب في شبكة أنابيب المياه الذي استغرق تصليحه شهراً كاملاً، أما في القرية المغربية فليست هناك شبكة أنابيب أصلاً، وأن الهدف من الإضراب الجنسي هو تحريض الرجال على جلب المياه من (نبع النساء) المعلّق في أعلى الجبل الوعر، لحين مدّ أنبوب الماء إلى منازل القرية كلها. وظّف المخرج بعض اللقطات والمشاهد المؤلمة التي تحبس الأنفاس، حينما تسقط إحدى النساء الحوامل ونرى الدماء تسيل من أعلى الفخذ، لتصل بطة الساق ثم تتساقط على الأرض الحجرية الجافة.
وهنا تقترح ليلى (جسدّت الدور بإتقان شديد الفنانة الجزائرية ليلى بختي) أن يقوم الرجال بجلب الماء من أعلى الجبل درءاً لهذه المخاطر الجمّة، لكن هذا الاقتراح يثير حنق حماتها فاطمة (لعبت الدور الفنانة الفلسطينية هيام عباس) التي كانت تحث ابنها على تطليق زوجته العاقر، كما تؤازرها في هذا الموقف جارتها الأرملة (بيونة).
منبع اللذة
لم تقف دعوة ليلى عند حدّ المقاطعة الجنسية، وإنما ستتعداها إلى طلب المساواة في البيت والمدرسة والجامع وإلغاء كل أشكال الهيمنة الذكورية المقيتة التي تنتصر للرجل الجالس في المقهى، وتبخس حق الأنثى التي تعمل ليلا ونهارا مثل نحلة مليئة بالحيوية والنشاط. كل هذه الاحتجاجات والمطالبات نسمعها ونستمتع بها في الأغنيات المحلية والرقصات الشعبية التي شدّتنا على مدار الفيلم الذي تجاوز الساعتين بقليل، من دون أن يتسرّب إلينا الملل.
وهذه المقاربة الجديدة والجريئة لم تكن موجودة في خبر إضراب النساء القرويات التركيات، وإنما اجترحها كاتب السيناريو ومخرج الفيلم من مخيلته المبدعة، التي تريد أن تتحدى منظومة القيم العشائرية، التي تحدّ من حرية المرأة في غالبية بلدان العالم التي تعيش عصرها البطرياركي المتخلف. هنا يأتي دور الفكاهة الدالة المعبِّرة، حينما تقرّر ليلى ومعها نساء القرية قاطبة أن يمنعنَ الرجال من الوصول إلى (منبع اللذة) الذي لولاه لأصبحت الحياة موحشة مقرفة جرداء. وبهذا السلاح الفتّاك تعاقب النساء القرويات رجالهن الكسالى، الذين استمرأوا هذا الاسترخاء المذل، بينما تسقط هذه الشابة أو تتعثر تلك المرأة الحامل، لتفقد جنينها الذي انتظرته طويلاً.
وعلى الرغم من تعرّض إحدى النساء إلى عقوبات بدنية من قبل زوجها إلاّ أن الهدف الجماعي للنساء قد تحقق في خاتمة المطاف، حينما نرى الماء يتدفق من الصنابير النحاسية ليجنّب النساء مخاطر الصعود إلى (نبع النساء) الذي كلفهنَّ أثماناً باهظة، لكن النتيجة النهائية كانت لمصلحتهنَّ جميعاً، فلابد للشَهد من إبر النحل.
______
*(العرب) اللندنية .