حاورته : لينا هويان الحسن *
حول فرضية ساحرة يشتغـل *الروائي الأردني يحيى القيسي في روايته الأخيرة «أبناء السماء» ويمرّر لنا أسئلة ملغزة حول الأرض التي نعيش عليها، وقبلها في روايته «باب الحيرة» سرّب لنا بلغته الارتيابية الذكية «أهمية امتلاك الحقيقة»، ويطرح شتى الاحتمالات بماهية الكائن البشري. سواء في نصوصه القصصية السابقة، أو في نصوصه الروائية، سيجد القارئ نفسه مدفوعاً لتأملات تنبؤية، عادةً، وحده الأدب يُفلح بزج القارئ في هذا الطراز من الأدب، حول هواجسه الروائية كان لنا هذا الحوار:
عندما تحوّل الزمن إلى كم برزت الحاجة إلى الساعات. وتزينت المدن بأبراج تحمل ساعات ضخمة. والعلم رسم خرائط غير تلك التي رسمها أدباء بالكلمات وزينوها بكائنات خرافية.. أين أضحت حاجة العالم إلى الأديب في ظل العلم الذي حوّل كل شيء إلى كمّ؟
– مقاربات الأدباء المعرفية، السلسة غالباً والمصاغة بلغة شائقة، لها مسار في قلوب الناس ووجدانهم، فيما للعلماء ونظرياتهم ومخابرهم وتجاربهم أيضا مسار آخر في عقول الطلبة والباحثين عن العلم الصافي في الجامعات والمدارس. وما يبدو خرافياً في أعمال الأدباء ربما يكون له أساس صحيح وأكثر دقة مما لدى العلماء، فالأديب مفتوح على فضاءات البحث والخيال من دون خوف، ولا تتم مؤاخذته غالباً، فيما العالم خاضع للقوانين والأنظمة الصارمة التي قد تطيح بسمعته الأكاديمية إن سار باتجاه مغاير، ولهذا يسبق الخيال العلم..! وأقول رداً مختصراً هنا: تذكري دائماً أن ما قاله الأدباء قبل سنوات عديدة وجده العلماء اليوم، لقد أنجزت السينما فيلما بعنوان الصعود إلى القمر العام 1909 وبعد ذلك بنحو ستين سنة استطاع العلماء تنفيذ ما بدا خيالاً أدبياً وشطحة فنية…!
المثقف حقاً يعرف أن ما يعرفه يكاد يكون جزءاً صغيراً من قارة مملوءة بأسرار وألغاز يغلفها الضباب. كم من تلك الألغاز والأسرار اجتذبتك وجعلتها ثيمة في نصوصك الأدبية ونلمس ذلك واضحاً في روايتك الأخيرة «أبناء السماء»؟
^ أنا مهندس في الأساس وعقليتي علمية رغم عشقي للأدب ودراستي له لاحقاً، ولقد كانت العوالم الغريبة اللامنظورة تستهويني دائماً، وأنا شديد التفكر بالكون ومن حولي، حتى مررت بتجارب روحية على الصعيد الشخصي، ورحلة من الإيمان التقليدي إلى الإلحاد ثم الإيمان الروحاني أو دين الحب إن صحت التسمية، وقد وجدت هذه العوالم وبحثي عنها طريق لها في «أبناء السماء» بشكل أساسي، وبدا التفكر فيها مبكراً في الرواية التي سبقتها «باب الحيرة» ومن قبل في المجموعتين القصصيتين، واعتقد أنني سأظل أسير هذه العوالم المثيرة للبحث والدهشة حتى وإن بدت لبعضهم خيالاً علمياً أو شطحات واهمة..!
ثمة حكمة يعتنقها كثير من أدباء الغرب (خذ الحقيقة واحملها إلى العالم) وما أكثر الحقائق في عالمنا العربي، الحقائق المسكوت عنها، تبدو مشغولاً بهذه الثيمة في روايتك باب الحيرة، هل ترى أنه يمكن للحقائق أن تكون عماداً واضحاً للفن الروائي في العالم العربي؟
الموضوعات كما يقول الجاحظ مرمية على قارعة الطريق، والمهم هو تحويلهـا إلى عمل أدبي ســردي قادر على إقناع المتلقي به، وبالنسبة لي أحب أن أقدم المعرفة منسوجة داخل الحكاية، فالروايـة الجــديدة كما أراها لم تعد فقط تستهــوي القارئ بما فيــها مــن أحداث بل بمقدار ما انطوت عليه من معارف جديدة وعميقة تثري عقله وتنشط مخيلته، وتقوده إلى لذة القراءة. وأظن أن روايتي «باب الحيرة» قد سببت لي الدوار من كثرة ما انطوت عليه من الأسرار والمعارف التي تعد خلاصة قراءات هائلة في التاريخ والفلسفة وعلم النفس والتصوف إضافة إلى رحلتي الخاصة وعيشي المباشر في تونس الحاضن الأساسي لفضاء «باب الحيرة».
بذريعة الحداثة يرى الجيل الجديد والمعاصر «عربياً» أن الماضي، التاريخ، التراث، مفردات يفترض دفنها إلى الأبد، أين ترى نفسك من ذلك؟
لا افهم الحداثة بهذا الشكل، ولا أرى أنها انقطاع عن التراث بل تجديد له ومحاولة قراءته بروح عصرية، وتنقية قمحه من زوؤانه، ومن المؤكد أن الجيل المنبت عن جذوره لن يكون له مستقبل، ومن ناحية الأدب والكتابة هناك منجز هائل في التراث لم يدرس جيداً، ولم يتم الاقتراب منه كثيراً بعد، خصوصا في التصوف والفكر والدراسات المتعلقة بالتابوات الثلاثة أي السياسة والجنــس والدين، فدائماً هناك طمس سياسي متعمد لتراث من سبق، ويكفي أن نعرف أن هناك آلاف المخطوطات العربية القابعة في المكتبات الأوروبية لم يطلع عليها أحد بعد… وبالنسبة لي اعتقد انه من حقي كروائي أن أوظف ما أراه مناسباً لموضوعاتي من التراث شرط أن أربطه بالحاضر، وأن لا يكون ثقيل الوقع لغة وأسلوباً على المتلقي.
كثير من الأدباء يعملون في الصحافة وأنت منهم، البعض يرى عمل الأديب في الصحافة وقت مهدور، أتوافقهم الرأي؟
لا توجد وظيفة اسمها «أديب» متفرغ في الوطن العربي على ما أعرف، وبالتالي يجد الأدباء أنفسهم يعملون في حقول شتى، وأعتقد أن اقرب حقل إلى روح عملهم الإبداعي هو الصحافة، وبالتالي تجدين الكثير منهم هناك، وبالنسبة لي أرى أن الصحافة تستنزف جهد الكاتب يومياً، وتستهلك قلمه بموضوعات شتى، وفي الوقت نفسه تمنحه القدرة على كتابة رشيقة، وإذا عمل محرراً يستفيد من إنجاز كتابة مصقولة بلا إنشاء وكلام زائد، لأن التحرير فن الحذف، وبالتالي إن وظف الأديب خبراته الصحافية في كتابته الإبداعية ربما سيكون النتاج ثمراً مدهشاً..!
نصك المقبل، هل تضع له مخطوطات مسبقة؟
تتشكل الكتابة في أعماقي أولاً، وأرفدها بالقراءات والبحث في الموضوع الذي اكتب فيه، وحين يكتمل الحمل بها يحدث المخاض ثم الولادة، ولا أرسم مخططاً على الورق لما سيجري من أحداث بل أرى الرواية ككل ثم تبدأ برسم خطواتها الخاصة وحيواتها المتنوعة على الورق، أو على الأصح عبر جهاز الكمبيوتر لأني أكتب مباشرة على شاشته، وأحفظ الملفات أولاً بأول، وتبدأ الشخصيات بالتمرد غالباً واختيار مساراتها الحياتية الروائية المختلفة، وأنا على العموم لا أمارس القمع على شخصيات رواياتي وأتركها تتصرف بحرية، وهذه تجربة عملية على الديموقراطية، وغالبا ما يمارس الكتّاب نوعاً من القهر على شخوص قصصهم ورواياتهم، وهذه ديكتاتورية ممجوجة يكون ناتجها إبداعاً هزيلاً غالباً، فإذا كانت الشخصية ترغب بشرب كأس من الجعة في حانة لماذا أقودها إلى مقهى لشرب كأس من الشاي خاضعاً لابتزازات المجتمع ومواضعاته المتقلبة..!
العالم العربي بمعظمه «يتحوّل» ووحــده الأدب يمكن أن يكتب نصوصاً بمثابة نبوءات مستقبلية، هل من الممكن أن نقرأ لك شيئاً من وحي ما يحدث حالياً من متغيرات؟
التقلبات الحالية في المشهد العربي ستستمر وبالتالي لا يعول عليها، وأرى أن على الأديب أن لا يكتب ردة فعل للآني المحيط به، بل تكون كتابته رائية واستراتيجية طويلة المدى، تستشرف المستقبل أو تغوص في الماضي وتنبش كنوزه، أما الانغماس بحمأة الحاضر ومستنقع السياسة فهذا عمل يبدو جيداً للصحافة والسينما والتلفزيون والكتابة السياسية التحليلية المعاصرة، ولا أجد مانعاً أن يعبر الأديب عن ذلك بمقالات في صحيفة أو تحليلات إذاعـية أو غيرها أما الكتابة الإبداعية فهي عمل يحفر عمــيقاً ويحــتاج إلى نار هادئة حتى ينضج جيـداً كي يؤتي ثماره كل حين …!
__________
*يحيى القيسي : روائي من الأردن ، مؤسس ورئيس تحرير موقع ( ثقافات )
نشر الحوار في (السفير)
نشر الحوار في (السفير)