* هيثم حسين
في روايته “باب الليل” يسعى الروائي المصري وحيد الطويلة لتفكيك بنية المقهى كنقطة جذب ومكاشفة وتحرر من القيود، ويتناول بالمقاربة والمعالجة فلسفة المقهى ورواده، فيسبر أغوارهم ويحلل نفسياتهم، كما يستعرض تواريخهم وهزائمهم وخيباتهم.
يقسّم الطويلة عمله السردي الصادر مؤخرا إلى عدة أبواب، يختص كل باب بجانب، لكن الأبواب تتكامل لترسم دائرة الحيرة والاغتراب التي تغلّف أرواح الشخصيات وتقودها في هرب دائم إلى المجهول من خيبات الواقع والمعلوم.
وينوّه الروائي في البداية إلى أن بعض أبواب الرواية هي “أبواب مدينة تونس، وبعضها أبوابك أو أبوابها” وذلك في مخاطبة مباشرة للقارئ الحاضر والغائب، وليكون الإسقاط والتعميم مفعّلا ومتخطّيا لحدود المرسوم والمروي إلى فضاء متخيل مفترَض.
خلف الأبواب
من الأبواب التي تأتي في الرواية “باب البنات”، “باب الفتح”، “باب الهوى”، باب الجسد”، باب الرجال”، و”باب النساء وغيرها. هي أبواب تستجرّ العواصف وتستدرج اليأس وعدم المبالاة وسط كومة من البشر المحبطين حكايات تبدأ وتنتهي على العتبات. أبواب معتمة ومفاتيح ضائعة وأقفال مكسورة ومحطمة، هي صور لأصحابها المرتحلين خلف سراب المتع والأوهام دوما.
مقهى “لمّة الأحباب” عالم مستقلّ بامتياز. عالم ينفتح على الدواخل، يستعرض الطويلة من خلاله علاقة البشر بالأمكنة، وتأثير تلك الأمكنة عليهم. يكون للمقهى تقاليده وطقوسه وأبوابه، وكل باب بدوره يفضي إلى آخر.
وكأن المرء في متاهة من الأبواب، ما إن يخمن أنها تفتح مصاريعها وتشرعها له حتى تنغلق في وجهه، وتتكتّم على ما يجري خلفها. يذكر الطويلة أنه في المقاهي تسقط الحواجز، وأن هناك فرقا بين ثوار المقاهي وثوار المنافي.
ولا يكتفي صاحب “ألعاب الهوى” بوصف مقهى في مدينة تونس، بل يكون ذاك المقهى مثالا على غرابة المكان، ومركزا يتجمع أبطاله وشخوصه من مختلف الأماكن. كأن المقهى يتحول إلى نقطة جذب واستقطاب، ما إن يعتاد عليه المرتادون حتى يكشف أسرارهم وشخصياتهم ويحتضن آلامهم وأحلامهم ويغدو لهم المقر الدائم، يسحرهم ويغويهم باستمرار.
لكل تفصيل في المقهى حكاية ولكل زبون تاريخ من الهزائم، وهو بتصميمه الغرائبي يسند التهالك البادي لدى مرتاديه، يروّح عنهم ويكون جسرا للتواصل بينهم. يكون مستنقعا وبحرا في الوقت نفسه، يصطاد فيه الرجال النساء وبالعكس. بائعات هوى يتربصن بالرجال من الشرق والغرب، يتوددن إليهم، يكسبن منهم ما يكسبنه ثمّ يرحلن إلى آخرين في دورة لا تتوقّف، ورحلة نحو المال لا تهدأ.
يكون مقهى “لمّة الأحباب” شاهدا على هزائم عدة أجيال، يشهد سقوط منظومات ودول، كما يشهد تنامي قوى ناشئة وتضاربها مع قوى أخرى، ويكون الإطار العام محمّلا بالفجائع الشخصيّة والعامة. من المقهى تنطلق حكايات مناضلين سابقين يجترّون أيّام نضالهم ومغامراتهم وجنونهم، يتحسّرون على شباب ضائع في زحمة الأوهام والكوابيس والخيانات والغدر.
مناضلون فلسطينيون في المقهى على شرفات التيه، عالقون في برزخ المنفى والعودة، عرب على ضفاف الفجيعة، مهاجرون مقيمون على تخوم القهر يغرقون فيه. شخصيّات حائرة تبحث عّمن يستمع لشكاواها.
شرفات التيه
في كل ذلك بوح كأنه أنين مكتوم من جرحى الزمن والهجر والترك والإهمال. رجال ونساء على حافة الهاوية واليأس والجنون، يقودهم الجشع للمال والجنس والابتعاد عن كلّ ما من شأنه أن يذكرهم بأنفسهم. والهروب من المواجهة الواقعيّة يلقي بهم إلى قيعان المقهى وعلى طاولاته، يتبادلون أنخاب الأسى والضياع، ويكشفون زيف العالم وغدر الأصدقاء ومعاندة الظروف لهم.
من تلك الشخصيّات “أبو شندي، “أبو جعفر”، “غسان”، “شادي”، “كسوف” وغيرهم كثيرون. وجوه مضحّى بها على مذبح المقهى وخلف أبوابه المشرعة على السؤال والفضيحة. وهي وجوه تقابلها وجوه نساء قاتلات قتيلات في الوقت نفسه، يرتهنّ لسطوة المال ويضعفن أمام قرقعة الذهب، قوّتهن في إبرازهن التبعيّة والضعف، يتملكن القلوب والعقول، أو يستأجرنها بشكل من الإعارة المرحلية.
“للّا درّة، نعيمة، حلومة وغيرهن” من الشخصيّات النسائيّة التي تدور في فلك المقهى وعالمه.
ومن خلال كل تلك الشخصيات يفكك الكاتب شبكة العلاقات التي تنسجها السلطة الأمنية مع عملائها عبر وسطاء انتهازيّين، وكيف تدفعهم إلى دسّ الفرقة بين الناس عبر سياسات خبيثة تستهدف قتل الأمل فيهم، وبالتالي إلقائهم على قارعة الطريق أسرى أوهام التغيير دون أن يتمكّنوا من التحلّي بروح المسؤولية، ودون أية مقدرة على التفكير في الثورة لتغيير واقع الحال.
سلسلة من العملاء والمأجورين، ابتداء من صاحبة المقهى التي يسمَح لها بما لا يسمَح به لغيرها، إلى الشيخ الأمني إلى أناس ألقت بهم المصادفات والظروف بين براثن المخابرات لتبتزهم وتستغلهم على طريقتها.
في المقهى وفي الرواية يزيح الطويلة النقاب عن الكثير من الأسرار التي تقبع وراء الأبواب، يطلق صيحته المنذرة/ المبشّرة، ويكون التغيير القادم أحد إرهاصات تراكم القهر ونتاج مخاضات ثورات مغتالة. وما الباب عنده إلا أناس في فضاء الزمن، ينتظرون تثبيتا في أمكنة مستلبة ومغرّبة عن هويتها وطبيعتها وكينونتها.
يمتاز سرد الطويلة بكثير من السخرية الممزوجة بالمرارة، يقدّم ذلك بإمتاع ومؤانسة وحيويّة. يحكي الخيبة والهزيمة بصيغ وأساليب مختلفة عن الدارج، ليؤكد بذلك أن الهزيمة تبدأ من الداخل وتتعمّم لتقتل روح المبادرة في المرء، ولا يكون الشجن والدمع وازدراء الواقع والذات والماضي والحاضر والمستقبل بنوع من الرثاء سوى جلد مبالغ للذات ونيل منها وتسخيف لها.
كما يبرز صاحب “أحمر خفيف” أوجه المقارنة بين النضالات التي يخوضها ثوّار الأمس و”نضالات” بائعات الهوى، مشيرا إلى أن كل امرئ يناضل على طريقته وبأدواته، ويخوض حرب الحياة بإستراتيجيّته الخاصة التي تتوافق مع تركيبته النفسية والجسدية.
________
*(الجزيرة)