“برافر” مرّ من قريتي


شيخة حسين حليوى

(مِنْ طلع من داره…انقلّ مقداره!)

تغيبُ بداوتي في ثنايا المدن الّتي استوطنْتُها واستوطنَتْ بعضاً من هويّتي، وما تلبث أنْ تعودَ تلك البداوة المغيّبة قسريّا في كلمات تتَمرّدُ على استبداد لساني، فيرتبك السامع ويستفهم ويستوضح وقد يبتسم ساخرا. 
تعود بداوتي في أعراسنا ومآتمنا، تتربّع على عرش فرحي وأنا أجالس خالاتي وعمّاتي، وتصيغ كلمات حزني وأنا أُحصي ما تبقّى من حمولة ‘تهدّ وترحل’…
في صحن’ العكّوب’ و’العِلت’ و’اللسَيْنَة’ والشاي بـ’الزوفة والمَرْمَريَّة’… وهي مهما غابت يستحضرها اسمي.
أنا بدويّة الأصل والمنشأ، بدويّة الهوى والفكر، لاجئة في مدينة عشقتُ هواها وأزقّتها في صغري، ولكنّها لم تنجح يوما في استلابي نَزَق بداوتي …ما زلت أحلم بالبدويّ، وأغضب بالبدويّ وأشتمُ بالبدويّ…وأهوى بالبدويّ!
حينما أكتب قصّة تشاركني فيها جِواهِر ووظحى وحِسِن وخزنة ونَزْهة…
حينما تمطرُ ليلا يقضّ مضجعي ‘دالف’ وهميّ… أنسى أنّ لبيتي في المدينة سقفا… 
لا أطيقُ العتمة…أُنيرُ كلّ غرف البيت، وقد أورثني ‘ ظَيْ الكاز′ الآيلِ للانطفاء رعبا من الظلام…
كلّما أمعنتُ في المدنيّة استفحلت بداوتي وانبرت تدافع عن نفسها. في كلّ سياق عن ‘البربريّة’ وسوء التصرّف يورد أهل المدينة البدوي مثالا عليها…’ زي البدو أشكرا…شو إحنا بدو لا سمح الله؟… هدول بدو! بتعرفي، متخلّفين’. أصحّحهم، أخجّلهم، يعتذرون ثمّ يسألون:’ شو يعني كنت عايشة بخيمة؟ مش مبيّن عليكِ، طيّب بحياة الله إحكي بدويّ!’ 
أُصْبحُ ‘فْريخ عَجَب’، أطيحُ بكلّ قوالبهم الموهومة عن مجموعة هي أصل العروبة، وأُصَنّف بحسب معاييرهم في خانة الاستثنائيّة، فالمدينة هذّبت أخلاقي ونزعت عنّي وصمة البداوة.
المهد الأوّل لبداوتي قرية ‘الرَّيّ’ نسبة لنبع ماء فيها طالما روى أجيالا قبلنا، وَعينا على قصص النبع وليس على مائه، أو ‘ذيل العِرْج’ كما اصطلح على تسميتها بعضنا، وهي واقعة في ‘باب وادي الملح’ الممتدّ من جسر الجلمة إلى ‘الياكيم’.
أمرُّ بجانب قريتي المهجّرة… ملامحها تتغيّر من مرور لآخر، كنت أحصي المصاطب الشاهدة على البيوت المهدّمة عن بعد، أرسمُ الدرب الترابيّ المتعرّج المؤدّي لبيت جدّي. كان بيت عمّي ‘نايف’ يحاذي شجرة البلوط الضخمة الّتي كانت مسرحا لألعابنا وتعاليلنا وسهراتنا الصيفيّة…مَن ‘كوّعَ’ على طراحة في ظلّ ‘البلوطة’ ذاق طعم الجنة. 
بيت جدّي وبيت خالي عبد الله وبيت خالي صالح جميعها تُشرف على بيّارة اللوز، وهي أقربُ البيوت إلى الشارع. ‘مكتل صالح’ يطلُّ علينا من تلّة محاذية، نرهبه ولا نزوره إلاّ جماعة، أمّا ‘ التون’، بقايا محجر، فقد أصبح ‘ صيرة معزة’ …القطيع يعرف طريقه إليه صيفا، وفي الشتاء يأوي إلى كهف في حضن الجبل كُنّا نُطلقُ عليه اسم ‘القلعة’..مَنْ يتفقّد الماعز ليلا في حضن الجبل يجتاز اختبار الرجولة.
عشرون أسرة، وعشرون كوخا من الخشب والزنك، لا ضوء سوى مصابيح الكاز، المغبوط من كان عنده ‘لوكس′، أمّا المحظوظ فهو من اشترى ‘ماتور’ شغّل بواسطته جهاز تلفاز قديم يتجمهر حوله معظم أفراد القرية، فالمصاطب في قريتي كبيرة وواسعة والقلوب أيضا. شارع ونهرٌ صغير يفصلان بين قريتنا وبين المستوطنة اليهوديّة المقابلة، وهما يفصلان بين عالمين وعصريْن، مستوطنة يهوديّة ‘معترف بها’ دائمة التطوّر، وقريتنا المصنّفة بحسب سياسة المحتلّ ‘قرية غير معترف بها’، وهي بحسب هذا التصنيف الأبرتهايديّ محرومة من البناء والكهرباء وكلّ الخدمات الأخرى…محطّة الباص اليتيمة التي تربطنا بالعالم المتحضّر كانت الشاهد الوحيد على قريتنا الوادعة في أسفل جبل الكرمل.
أوامر الإخلاء لم تتوقّف يوما ولا التضييق، هدموا بيتا تجرّأ خالي أن يبنيه في أرضه، صادروا قطيع الماعز مرّة تلو الأخرى، والكبار وحيدون بين كرّ وفرّ ووعي غائب وسلطة جائرة. كوشان الأرض لا يشفع عند سلطة محتلّة.
هُجّرنا مِن قريتنا بهدوء وصمت، توزّعنا لاجئين في قرى وبلدات المنطقة.
أرضُنا هناك مُسيّجة، ملامحها لم تعد تشبهها، لا مصاطب، لا بيّارة لوز ولا شجرة بلوط. 
‘مِنْ طلع من داره إنقلْ مقداره’، يكرّرها الكبار بحزن وأسى وهم يحصون الكوارث الّتي ألمّت بهم منذ التهجير.
قريتي ماتت، والمستوطنة اليهوديّة المُقابلة تمتدُّ وتكبر وتَترامى أطرافها.
برافر مرّ من قريتي التي كانت.
________
*كاتبة من يافا فلسطين
(القدس العربي)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *