في الأمر ما يدعو إلى الرثاء، لا إلى النشيد


*شربل داغر

طالما أنني انتهيت إلى الإقرار بأن من سبقني إلى الحرب تعجلَ في قتلي، ولم يبقَ سواه لكي يخبر عني، بدلاً مني. 

غير أنه لم يقتلني واقعاً، بل أنا الذي قتلته، فضلاً عن أنني أحسن – أفضل منه رواية ما جرى. 
أنا لم أقتله في حاصل الأمر، ولا هو قتلني في نهاية المطاف: تبادلنا أصابعنا فقط، ما يتوجب في عمل المحترِفِين.
كان في إمكانه التأخر، والمجيء متى شاء، من دون أن يصطحب معه مقاتلين آخرين، سواء بربطة عنق أو بقبعة مرقطة؛ 
سيّان إن نسي «الكتابَ الأحمر» في سيارته الصغيرة فلا يقوى على استشارته مثل مرشد في معابد المراهقة، أو أسرعَ إلى إخفاء رهبته من ليل المتاريس في الثرثرة والتضاحك؛ 
لا بأسَ إن ترددَ في فعلته، أو تباطأ في التقدم بهمة المحاولة، أو أمسكَ عن التنفس قليلاً حين لمع في النصل بريق عينيه مثل عاشق في ليلته الأولى،
فأنا كنت أنتظر منذ وقت فتى أشدَّ عزيمة مني، ليقتلني.
هناك من يَقتل والده لكي يكبر،
هناك من يَقتل أمه لكي يحسن معاشرة النساء،
هناك من يَقتل معلمَه لكي يشتد ساعده في الرماية،
هناك من يَقتل قبل صياح الديك، أو بعده، من فرط نقمته، لكي يتفرغ لحشو الرصاصات من جديد،
هناك من يَقتل براءته فيتحول إلى بذيء في مشادة، ولصٍّ في بيت جاره، 
وجنرالٍ في أعين المسنات القانطات من كونهن لن يعشن من الحروب غير أخبارها على أجهزة الترانزستور،
هناك من يَقتل – مثله – لكي يتكفل غيره برواية ما جرى له.
أعترفُ من دون خجل بأنني عشت حياة سرية، أكثر من حياة، بسيقان كثيرة، لكنني اقترفت جريمة واحدة كنت شاهدَها الوحيد، بعد أن دعاني بنفسه، من دون كاميرا أو آلة تسجيل، على أنني أستطيع ذات يوم أن أروي… ذلك أنه كان مدركاً كوني محباً للقصص البوليسية، أقرأها بالمقلوب في المرة الأولى، لكي أتعقب القاتل في المرة الثانية منذ خطواته الأولى فوق سطور الجريمة… أن أروي ما يحدث من دون جهد، ما يسقط مثل ثمرة ناضجة في سلتها، طالما أنه يتم شحذ الفؤوس من دون كلل، وينصرفون إلى القتل، على مقربة مني، في فيء العائلات الظليل.
لطالما أمضيت ساعات لهوي في سنِّ السكاكين،
وتمرنتُ، في المشادة أو عبر النوافذ الموصدة، على إخفائها في عتمة حذائي، أو التباهي بها يوم العيد مثل نيشان المدرسة،
قبل أن تصبح امتداداً ليدي،
امتداداً تلقائياً
ليدي الأرجوانية…
هكذا احتجتُ لسكين لتدوين رسالة حبي الأول
على شجرة،
قبل أن أنصرف إلى تسجيل اسمها بأحرفه الأولى فوق جدران الشارع الخلفي لشارعها، آملاً بأن تكتشفه وحدها مثل رسالة سرية لا يحسن قراءتها غير مستلمها.
واحتجتُ لسكين أخرى تناسب قبعة الإخفاء، لسكين تختفي بدورها ما أن تنقضي الحاجة إليها، أو تتحول إلى ساعة في اليد، أو إلى وسخ بسيط على راحة اليد لا ألبث أن أمسحه من جبهتي، فلا تبقى علامة منه تحت قبعة الإخفاء.
سكاكيني 
كلبٌ أعمى
ووسخ،
يشم الجثث واحدة واحدة
قبل أن يأنف منها. 
في الأمر ما يدعو إلى الرثاء، لا إلى النشيد
طالما أنني أشفقتُ على حالي بعد موتي: وحيداً في موتي، 
ومن دون نشيد.
الشهداء يعودون فرادى
الشهداء يعودون فرادى :
منهم من عاد إلى الفرن من دون أن يجد الشُّباك الذي تسلم فيه أرغفة الصباح مع رسالة تأخر في فتحها لكون «التعليمات» لم تلحظ وجود عابرين فوق الجادة التي ضاقت بنظرات الواقفات على شرفاتهن، اللواتي أنزلن سلالهن إلى الباعة الثابتين والمتجولين…
الشهداء يجلسون القرفصاء
في القصيدة،
لا أكثر…
فلا يستريحون فيها.
ذلك أن الشاعر طلبَ منهم
أن يبقوا يقظين
في انتظار بلوغ القارىء
عتبة العتمة.
الشهيد شجرة
من دون أغصان،
للشجرة أصابع من دون أن تقوى على التصفيق.
بلى، كنتُ هنا
بلى، كنتُ هنا :
لم أصفق قبل أن ينهي الساحر جملته الأخيرة،
لم أدفع المتهالك فوق كرسيه صوب السقوط،
لم أتفوه بأي كلمة في الجنازة…
بلى، كنت معهم: في هذا الصحن البارد، نقتات لحم أجسادنا بصمت وإذعان…
بلى، وإن غافلاً عما يفعلون
من وراء زجاج نظارتي.
موتانا اليقظون
موتانا اليقظون
الساهرون
يمرِّنون أصابعنا على العزف العاطفي
وحناجرَنا على النشيد الوطني…
موتانا الأليفون،
الهانئون في رياضهم البليدة،
القابضون على رؤوسنا مثل مقاعد كرسي لا يتوانى عن الاهتزاز،
لا ينفكون عن معاشرتنا،
عن نُصحنا
بأن الموت أجدى
من أن نبقى قانعين
في تابوت الثلج.
موتانا يقفون خلفنا
ويُقَلِّبون أوراق «النوتة» لنا،
لأصابعنا الطرية، 
فوق بيانو الحياة.
كان لهم إلهٌ يتوجهون إليه إذ يبكون
كان لهم إلهٌ يتوجهون إليه إذ يبكون،
ويتمسكون بحبات سبحته إذ يتساقطون في وهدة الكآبة،
وكلمةٌ منه كانت تكفيهم لكي يرتدعوا عن حماقاتهم،
بخلافه: 
يقتل آلافاً في اليوم الواحد
ولا يلبث أن ينام بمجرد أن يضع رأسه على مخدته…
بخلافي أيضاً، إذ أمضي الليلة معذَّباً
من دون أن أكون قد قتلتُ ذبابة في نهاري،
وليس لي من أتوجه إليه
في عزلتي، وفي خرسي
غير هذه الكلمات.
حتى حين نكون صغاراً
حتى حين نكون صغاراً
يحلو لنا أن نتصفح صور الأمس :
نتذكر، ونروي ما حصل لنا فيها…
أما الشاعر فلا يقوى على ذلك، إذ يطلبون منه الدخول إلى قصائده :
يزورها ربما،
لكنه يفشل حتماً في أن يكون دليلاً فيها،
عما انقضى،
مثل انفعال صاعق،
في كونٍ له من رؤوس حروفه جذور…
حين نكون صغاراً
يحلو لنا أن نكبر،
أن نمثِّل أدوارنا،
وهو ما يفعله الشاعر 
في طفولات اللغة.
يراني، يراني، يراني….
الذي يتقدم صوبي
أتقدمُ صوبه بدوري،
لكن خطاه أسرع من خطاي.
أكتب عنه،
وهو يراني :
أخاف، 
من فرط ولعي بالحياة.
هكذا أنا
هكذا أنا، وقد قرأت في «بخلاء» الجاحظ، أن أخوين لا يملكان سوى ثوب واحد: إذ يخرج أحدهما، يبقى الآخر في البيت.
أنا الراحل،
أنت القادمة :
نلتقي، 
ولكن في اتجاهين مختلفين. 
دعني
الآن
أبكي
في وداعي.
لا تكترثْ بالأمر،
ستكون إذ ذاك قد رحلت.
فيما
ينظمون قصائد عن البحر
فيما أستعذب الاستلقاء على الضفاف؛
يبنون البيت سطراً سطراً لكي يرتفعوا معه فوق منصة،
عندما أتحرى عما يلمع، في الليل،
في عين العبارة؛
يرتسمون في طوابير صالحة لقافية
بينما أبحث عن نثر ذهبي في كومة قش.
هكذا: لا يدخلون إليها قبل أن تدخل قبلهم البحار والسطور والمنصات والطوابير والقوافي وخلافها،
فيما أتخفف من ثيابي
وترق ورقتي
مثل جسد شفاف.
ارتختْ العبارة
ارتختْ العبارة
في محلول الحزن،
في مائه البارد :
منها ما يصفو فيعلو في صدر القارىء،
منها ما يرسب في صدر الشاعر،
في بئر القصيدة. 
أي مأدبة
أي مأدبة
تكون لشخصين
وإن كانوا كثيرين،
مثل المطالعة
تكون لكثيرين
وإن في الكتاب عينه.
مُعلَّقة
يدي بيدك
قبلة مُعلقة.
_________
*شاعر من لبنان(نزوى)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *