عناية جابر *
ما أن تبدأ السيدة باغيس بالنقر بأرجلها على خشبة المسرح حتى يستقيم الليل، وتنفتح الأمسية على كل الاحتمالات الأخاذة. من المشاهد الثمانية لعرض الفلامنكو «يوتوبيا»، ثمة المشهد المتفوق لماريا باغيس، تنقر وحيدة بصحبة موسيقي، ليس خشبة المسرح فحسب، بل العوالم السبعة في تراتبيتها المتوهمة لكي تستفيق كل الكائنات النائمة، وتشاركها الاحتفال بالحياة.
من اللافت أن تمتلئ مدرجّات بيت الدين ليل السادس والعشرين (الجمعة) بالحضور المحتفل بعرض الفلامنكو «يوتوبيا» لماريا باغيس وفرقتها، في القيظ المحموم الذي يشل الحركة، وفي شهر رمضان بطقوسه المضبوطة على إيقاع صيام الناس وإفطاراتهم. في كل الأحوال، كان عرضاً يستحق متابعته بمشاهده الثمانية في انعكاساته العاطفية لذلك التوق والخيال والغريزة الكامنة في الإنسان التي تُمكّنه من الحلم بعيش مستقبل أفضل في استلهامات باغيس كلمات المعماري البرازيلي أوسكار نيماير (الراحل حديثاً) الذي أُعجبت بشخصه وعمله: «لا تجتذبني الخطوط المستقيمة والصلبة وغير المرنة التي صنعها الإنسان، ما يجتذبني هي الخطوط المنحنية والحرّة والحسية، ذلك الانحناء الموجود في الطبيعة، في الجبل والنهر، فالكون مصنوع من منحنيات».
لعشاق الفلامنكو، عملت ماريا باغيس على حفلها الاستثنائي في بيت الدين (يوتوبيا)، على كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة في العرض. الموسيقى جُهّزت تمـاماً لـ «يوتوبــيا» كــما أن باغــيس التي دخلت عالم رقص الفلامنكو عبر فرقة «أنطونيو غاديس» لتــؤسس في ما بعد «فرقة ماريا باغيس للرقص» أشرفت على اللوحات الثمــاني في العرض مع المرافقة الشــعرية (المغــنّاة) من قصائد لشعراء عالميين (بابلو نيرودا، وميغيل دي ثرفانتس، بودلير، روبن ليبانيغوس، ماريو بنيديتي، إلى جانب أوسكار نيماير في إحدى قصائده: «هذا هو المكان الذي أريد أن أعيش فيه).
ماريا باغيس من أهم المحدثين والمجددين في الفلامنكو، سواء لناحية الأسلوب، الذي تسبغه على الأنماط الكلاسيكية المعتمدة، أو لناحية «البصمة الخاصة»، بصمتها هي، التي تدفع مجريات العمل كافة.
لعبت باغيس في حفلها في بيت الدين، أكثر من صولو واحد، فبدت هي مركز الثقل الإبداعي، إن صحّ التعبير، وإن كانت بقية المشاهد زاخرة بالراقصين والراقصات والمغنين والمغنيات في خطواتهم المُدرّبة جيداً، التي تلعب على إيهام المتابع، بأن الرقص يبدو ناجحاً ليس من الحرفة التقنية العالية، بل لأنه يأتي من مكان قصيّ في روح كل من شارك بهذا العمل.
الرقص الجماعي كان بداية استهلال العرض الذي استلمته باغيس لتنطلق في سولوهاتها المجنونة، والحسية التي خلبت الحضور، ليرسو الأمر بعد ذلك على رقص «الفاروكا» الذي يعتمد الحوار في محاولة إلى تبيان المساواة والتوازن في الوجود. بالأسود والأبيض والأحمر، تقدمّت باغيس إلى الخشبة مختارة لكل مشهد لونه، وهي في كل «صولوهاتها» أنثى لينة ذات جسد مطواع تمنح اللون مشتهاه ومعناه. باغيس التي أشرفت واعتنت بتصميم الملابس وغلب عليها لون الإسمنت والغبار، استلهمت الأشكال من رودان وأوغست وخوان مونوز، كما أن جميع عناصر الكوريغرافيا تخدم ترجمتها الخاصة لأيديولوجية نيماير في فن العمارة. بهذا المعنى، السيدة التي تقف بداية منتصبة وشامخة على المسرح، سرعان ما تطوّع جسدها في انحناءات جذابة خدمة لمفهوم نيماير الذي يرى في الخطوط ذلك الانسياب والتلوّي الجذاب. مشاهد ثمانية لعبت في صلبها وفي خلفيتها معاً، كلمات من أشعار تخوض في زوال الحياة وقُصرها، وفي الفوضى والمواجهة، وفي الربح والخسارة والأسر والحرية والمنفى. كلمات هي انعكاسات لشعراء كبار منهم بودلير المحتفلة كلماته بالتخلص من القيود والسعي الى الكونية. عرض قُدّم للمرة الأولى عام 2011 قبل وفاة المعماري نيماير، وولد إثر لقاء جمع باغيس بنيماير في استديو الأخير في كوبا كوبانا.
* شاعرة وصحفية من لبنان
( السفير)