*محسن الذهبي
فريال الأعظمي فنانة عراقية مغتربة حملت موروثها الثقافي طيلة ربع قرن وجالت بابداعها مدن الشرق والغرب، فمن المتحف البريطاني في لندن عاصمة الضباب إلى الولايات المتحدة. ومن دول الشرق الأوسط إلى دول الخليج، لتحط الرحال في البحرين، وهذه المرة باستنطاق قصائد الشاعر الفلسطيني محمود درويش فتسمي معرضها الثامن 🙁 درويش، كيف أتلوعنك ..؟ وأنت بمحراب الشعر امام !) .
ونحن نحاول أن نغوص في الكشف عن مكنون الابداع في مشروع الفنانة واشتغالاتها المتميزة في تطويع الحرف العربي، نستذكر ما يرى ( جوزيف كوست ) من : أن الفن كمفهوم هو مجال تأملي عقلاني ونقدي، فهو بؤرة ﺍﻟﺘﻭﺍﺼل ﺒﻴﻥ ﻋﺩﺓ ﻤﻨﺎﻫﺞ، ﻜﺎﻟﻌﻼﻗﺔ ﺒﻴﻥ ﺍﻟﺼﻭﺭﺓ ﺍﻟﻤﺭﺌﻴﺔ ﻭﺍﻟﻠﻐﺔ ﺍﻟﻤﻜﺘﻭﺒﺔ . لذا فأن الكيان التأملي هو ما تصبو إليه الفنانة بابداعها كمفهوم يعتمد على الدلالة التوثيقية فكرياً لمنطوق ومدلولات الحرف ومجمل الجملة الشعرية عبر معايير جمالية تتوافق مع روح النسق الإبداعي في جوهره، فاشتغلت على بناء الحرف المنفرد كعنصر تشكيلي بنائي تشخيصي يجرد الجملة القولية من كونها مجالاً للتعبير فقط، الى بناء رمزي تعبيري تصوغها بمدلولاتها المنظورة والمضمرة.
معبرة عن ذلك في استعمالها للعديد من الخامات غير التقليدية في اللوحة المسندية بغرض الحصول على ملامس غريبة تستفز عين المتلقي، المتعود على القراءة للحروف والكلمات، أو جمل شعرية لها معانٍ محددة ومثيرة لما في نفسه من مدلولات . وذلك من خلال هذا البروز وانعكاس الظلال والضوء وروح اللون الطاغية بسطوعها، فاستطاعت بناء ابتكار جمالي من رموز اللغة وبناء عالم أقرب ما يكون الى السحر اللوني، الذي ينتمي لقيمة الحرف وقدسيته المتوارثه وروح المعنى .أنها مزجت بين نحت الشكل وتصويره في سلسلة أعمال عبر توظيف المساحات الهندسية الملونة توظيفاً مثيراً لعين المتلقي. وبنزعة تبسيطية للشكل الغنائي في اللون، والميتافيزيقية في الفكر المجدد لروح الابداع. على خلفية استيطاق مكامن روح الشعر وتوظيفه جمالياً، ليكون رمزاً وعلامة مكونة للغة تشكيلية ذات عصرية تجريبية مدهشة . تجاري ما يعطيه شعر محمود درويش من عذوبة وبساطة، فهي تحاول جاهدة أن تدخل روح النص في الجملة الشعرية لدرويش في تجليات معاني الحرف. والمعروف أن قصائد الشاعر جمعت بتمكن ثلاث ثيم وحولتها إلى ابداع لغوي وهي الوطن والحب والأم ..وهذا ما تبحث عنه الفنانة أيضاً . فكان توالد الابداع بابداع مقابل ليكتمل في أطراف اللوحة. فحضر الوطن والزيتون ورمان حدائق بابل والقمر وحقائب السفر ومنديل الأم وغيرها من مفردات درويش، حضرت بعنفوان وجداني عالٍ أكدت هذا التمازج والشعور المشترك بينهما.
فالفنانة في كل ذلك تحاول اكتشاف قوى الابداع في جوهر الموروث العربي اللغوي وتطويعه، فهي تشتغل على أن للحرف منفرداً صورته الجمالية العينية الظاهرية مقابل صورته المعنوية الباطنية . فالمشخص هنا( وهو الحرف ) لا تنحصر صورته بذاته فقط ولا بما ينطق ويؤول من معنى بل هو باطن يضمر روح المعنى . وهكذا نرى أن الاكتفاء بمحاكاة ظاهر الشيء لايقدم للمشاهد سوى الشكل السطحي للوحة تشكيلية غنية بالحروف والألوان و ما ان يقترب حتى تورطه في الغوص بعين المعنى فهي تؤول الدلالات والمعاني لتجعل من الافصاح عن روح المعنى مكنون في عدد الحروف وتقطيعها ككلمات تراكبية لها مداليل مجتمعة.
فالفن عند ( فريال الأعظمي) إذن، ليس فقط فن اغناء لموروث المتراكم المعرفي الذاتي، بل فن يذهب ليغني التراث العالمي بنفس عربي متميز مستمد من تحديث الجذور. ونرى بوضوح أن :المدلول الفني لأعمالها هو تبادل الأدوار بين العلاقات التقليدية لفكرة ان الحرف للكتابة فقط وبين قيمته كمفردة في مشروع الحداثة في التعبير.
فتناثر الشكل الحروفي على سطح اللوحة الملونة ومن شتّى المواد المستعملة من داخل التكوين الإبداعي، يولد لنا فناً آخر يمتلك روحاً من الخصوصية والمزاوجة بين الشعر والتشكيل، فناً لا يجهل ما ينجز من توافق بين الايدولوجية الجمعية وبين الإبداع الفردي. حيث تقيم الفنانة وتركب مفرداتها الابداعية بين سكون ابداعي معاصر لا يخلو من تجريد حداثوي وبين انسجام مع روح الماضي الجمعي الخارج من عباءة المقدس المطلق الى رحابة الابداع الفردي..فالجمال كما يؤكد
( أدورنو ) (في ترابط ووعي، بتشييد ما يحدث بطريقة غير متماسكة وغامضة في الأعمال الفنية ) لكونها تستبدل مفهوم المقدس ورمزيته وتجعله يومياً وقريباً من الواقع، أي تقربه من روح المتلقي البسيط وتغريه في الإسهام في عالم اكتشاف المتعة الجمالية . وخصوصاً مع قصائد محمود درويش التي عشقها المتلقي وبقيت في ذاكرته.
تشتغل الفنانة فريال الأعظمي في تكوين لوحاتها على عنصرين غير متباعدين : الأول هو البعد الفراغي لفضاء اللوحة الممتد حتى الإطار، فعملت على الاستفادة من القدرة الجمالية لصراحة الألوان وقوة التضاد اللوني فمزجت ألوانها بشكل يحمل روح الابهار الذي لا يبتعد عن روح الشرق بمدلولاته، اما العنصر الثاني فهو الجوهر التكويني للثيمة الحروفية المجسمة لبعد الحرف المنفرد والمتناثر على صدر اللوحة . وفردانية الحرف هنا أعطته قوة تعبيرية، تضاف إلى قوته كجزء من مدلول ثقافي لغوي للجملة التعبيرية التي اختارتها الفنانة مما ترك الشاعر من قصائد .
ويبقى هذا المعرض خطوة مهمة ومتميزة على طريق الحروفية العربية التي تحمل الفنانة همومها سنوات طوال. فهو قصة حب بين درويش والأعظمي شهودها الوطن والغربة ووليدها الحرف.
________
* ناقد تشكيليّ عراقيّ مقيم في بريطانيا(الصباح الجديد)