*عبدالله الرشيد
مشاريع تزييف التاريخ
كغيري من أبناء جيلي ممن تعرض بشكل مكثف لخطاب الصحوة الإسلامية في ريعان تسعينياته، تم تقديم شخصيات تاريخية عربية وإسلامية في قوالب ثابتة مصمتة، وأحكام مطلقة، توارثتها الأجيال باعتبارها حقائق مطلقة لا تقبل النقاش، شكلت فيما بعد حاجزاً راسخاً وسداً منيعاً، أمام أي محاولة للتساؤل أو الشك، والتواصل مع تراث هذه الشخصيات التي كانت رائدة في التاريخ العربي الحديث، وأثرت في بنية الثقافة العربية والإسلامية.
الشيخ رفاعة الطهطاوي، أحد أبرز قادة النهضة العلمية في مصر 1801-1873 ـ قُدم في أدبيات الصحوة، باعتباره “البذرة الأولى لشجرة التغريب، ونموذجاً لـ”الشيخ المنتكس”، الذي ذهب مع البعثة التعليمية المصرية إلى فرنسا (1826م) واعظاً وإماماً للصلاة، لكن حين عاد، أضحى “واحداً من أئمة التغريب”، كما يقول محمد قطب في كتابه (واقعنا المعاصر) الذي يعد مرجعاً كلاسيكياً لفكر الصحوة في السعودية والخليج.
كان من أوائل من لاحق الطهطاوي بأوصاف العمالة والتغريب، الدكتور محمد محمد حسين في كتابه “الإسلام والحضارة الغربية”، حيث تحدث عن بدايات مشاريع استنساخ الأفكار الغربية عن طريق البعثات التي أطلقها محمد علي باشا في مصر، يقول حسين:”تأثر أعضاء هذه البعثات بالمجتمع الأوروبي، ولذلك رأينا أفكاراً تطرح لأول مرة في المجتمع الإسلامي هي صدى لفلسفة أوروبا وفرنسا الثائرة، وكان على رأس هؤلاء المتأثرين رفاعة الطهطاوي الذي جلب البذور الغربية وألقاها في التربة الإسلامية”.
ولأن محمد محمد حسين كان له تأثير كبير وبالغ في صياغة أدبيات الخطاب الإسلامي المعاصر خصوصاً فيما يتعلق بقضايا الهوية والغزو الفكري، فقد دخل رفاعة الطهطاوي وبشكل تلقائي في أي دراسات أكاديمية تتناول الفكر العقلاني العربي “التغريبي” الحديث، باعتباره واحداً من أهم رموزه، كما أورده كثر من بينهم الباحث السعودي محمد حامد الناصر في كتابه “العصرانيون بين مزاعم التجديد، وميادين التغريب” وكتاب “الاتجاه العقلاني لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين” للدكتور سعيد الزهراني، وآخرون.
لُوحق الطهطاوي بأوصاف شمولية، فهو يريد تغريب التعليم، وتعميم القيم الفرنسية الغربية على الحالة المصرية في الجوانب الاجتماعية والسياسة والاقتصادية.. وعلى الرغم من أن هناك من يرى أساساً أن هذه الأوصاف بحد ذاتها تعتبر ريادة ومنقبة وليست عيباً يقدح في الطهطاوي أو غيره من دعاة التنوير، في ظل تخلف العالم الإسلامي، وتفوق النموذج الغربي وصعوده آنذاك، لكن بعيداً عن هذا الاتجاه، التساؤل الموضوعي والتاريخي الذي يفرض نفسه، هل كان الطهطاوي في مشروعه ومؤلفاته ورؤاه مستنسخاً للحالة الغربية ومسلوباً لها هكذا بكل بساطة؟ هذا ما سنحاول أن نجيب عنه؟
طبيعة التنوير المبكر
إذا تركنا التوصيف الإسلامي لشخصية الطهطاوي فإننا في المقابل سوف نجد التاريخ والرواية العربية السائدة على الطرف المناقض تماماً، فرفاعة الطهطاوي كما يقول محمد عمارة، وكما يكتب محمود الربداوي هو “رائدٌ من رواد حركة التنوير المصرية، ويُعَدُّ من أركان نهضة مصر في العصر الحديث. تميّز برؤية تنويرية واضحة، ووعي ناضج بالرغبة في انتشال مصر من هُوَّة التخلف والفقر والانهيار”.
الطهطاوي نسبةً إلى بلده طهطا، وهي إحدى مدن محافظة سوهاج في صعيد مصر، ولد فيها سنة 1801، وفيها تلقى تعليمه الابتدائي، ثم رحل إلى القاهرة، فالتحق بالأزهر الشريف سنة 1817، وتتلمذ على يد الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر آنذاك، يقول الربداوي: “وقد لمس هذا العالم النبوغ والعبقرية في تلميذه، فبعد أن تخرّج في الأزهر سنة 1821، وكان عمره إحدى وعشرين سنة، درَّس في الأزهر سنتين، ثم انتقل إلى وظيفة إمام واعظ في الجيش المصري، فلما قرر محمد علي باشا إرسال أكبر بعثة إلى فرنسا للتخصص في مجموعة من العلوم التقنية العصرية، رشَّح شيخ الأزهر الطالبَ النابغةَ رفاعة الطهطاوي ليرافق البعثة إماماً واعظاً لها في مدينة باريس، وهناك جمع إضافة إلى عمله تعلُّم اللغة الفرنسية، فتفوَّق في تحصيلها، وأجادها قراءة ونطقاً واطلاعاً على أدب كبار الكتَّاب الفرنسيين، وأضاف إلى قراءاته دراسة ما كتبه رجال القانون الفرنسي، وأساتذة التاريخ والجغرافية”.
عاد الطهطاوي إلى مصر سنة 1832، وأُسْنِدتْ إليه وظيفة مترجم بمدرسة الطب، ثم انتقل إلى مدرسة المدفعية «الطوبجية»، كي يعمل مترجماً للعلوم الهندسية والفنون المدنية، وفيها ترجم مشروعه الكبير “تعريب القانون المدني الفرنسي”، كما أنشأ متحفاً للآثار يُعد أول متحف في تاريخ مصر، وأشرف على صحيفة «الوقائع المصرية» التي أنشأها أستاذه حسن العطار، وكانت تصدر باللغتين العربية والتركية، ومن موقعه بصفته مفتشاً للتعليم حاول الطهطاوي إعادة النظر في المناهج التعليمية وتطويرها، وأنشأ مجلّةً تُعنى بالشؤون التربوية، سماها «روضة المدارس» ولكن ولعه بالترجمة ظل يشده إليها، فلما أنشئت مدرسة اللغات سنة 1835، التي تغير اسمها إلى مدرسة “الألسن” أصبح ناظرَها، وألحق بها ما يسمى “قلم الترجمة”، وصار لمدرسة الألسن أثر كبير في الحياة الثقافية في مصر في القرنين التاسع عشر والعشرين.
التربية كانت هاجسه الأول، وقد عرَّفها الطهطاوي بأنها: “عملية نمو تعمل على تكوين اتجاهات صالحة للفرد، وتؤثر في سلوكه وتصرفاته”، ومن هنا توجه باهتمامه نحو المرأة في المجتمع، فدافع بشدة عن حق تعليم الفتاة، وأنشأ المدرسة السيوفية القريبة من القاهرة لتعليم الإناث، وآمن بوجوب مشاركة المرأة للرجل في الحياة العامة، شريطة أن تكون على جانب من العلم والثقافة.
ترك رفاعة الطهطاوي مؤلفات كثيرة، من أبرزها: كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، مؤلَّف ينتسب إلى ما يسمى أدب الرحلات في الثقافة العربية، وكتاب «المرشد الأمين للنبات والبنين» الصادر عام 1872 أي قبل وفاته بعام، وهو كتاب في أصول تربية الفتاة طالب فيه بمساواة الإناث بالذكور في طلب العلم، وكتاب «القول السديد في الاجتهاد والتجديد»، ويطرح فيه قضية تجديد الفكر الديني، وتحريره من إسار التخلف وربطه بالعصر الحديث وقضايا الإنسان المعاصر.
يمكننا القول إنه وعلى الرغم من مشروع الطهطاوي الكبير في ترجمة المتون الفلسفية الفرنسية، وترجمة الدستور الفرنسي، وتأسيسه لمدرسة الألسن، وتطوير مناهج التعليم للمواد الطبيعية، إلا أنه بقي وفياً لتكوينه الشرعي، بل كان شيخاً سلفياً تقليدياً، متمسكاً باللغة الأصولية الفقهية حتى وهو يتناول المصطلحات الحديثة آنذاك كـ”الحرية، والمساواة، والمواطنة، والعدل، والقانون”.
لكن يبدو أن طبيعة المرحلة تفرض طبيعة مختلفة للتنوير المبكر أيضاً، فدفاع الطهطاوي عن حق المرأة في التعليم، ومشروعه الكبير في ترجمة المؤلفات الفرنسية، وتأسيسه للتواصل مع مفاهيم الدولة الحديثة قد أكسبه ريادة مبكرة للتنوير ارتبطت به تاريخياً، وفي المقابل ألصقت به تهماً بالعمالة والتغريب والتغرير و”تخريب الهوية الإسلامية”، حتى وإن كان الواقع المعاصر قد تجاوز أطروحات الطهطاوي بمراحل عند كلا الاتجاهين.
مفاجأة “تلخيص الإبريز”
ستكون المفاجأة كبيرة حين نعلم أن كتاب الطهطاوي الأشهر “تَخْلِيصُ الإِبْرِيزِ فيِ تَلْخِيصِ بَارِيز”، الذي قُدم باعتباره دعاية مبكرة للحياة الغربية، وترويجاً للفساد، والتبرج والسفور، أنه في مجمله كان يؤكد رفضاً واضحاً لحياة الفرنسيين، فالطهطاوي يقول فيه: “ومن خصالهم الرديئة قلة عفاف كثير من نسائهم، وعدم غيرة رجالهم”.. “وعندهم من العقائد القبيحة، فيقولون إن عقول حكمائهم أعظم من عقول الأنبياء وأذكى منها”، “ومن عقائدهم الشنيعة إنكار القضاء والقدر”، “وأحكامهم القانونية ليست مستنبطة من الكتب السماوية، وإنما هي مأخوذة من قوانين أخرى أغلبها سياسي، وهى مخالفة بالكلية للشرائع”. (تلخيص الإبريز 154-192)
وبلغة معيارية ذات منظار ديني يقول الطهطاوي: “وأما أميركا فهى بلاد الكفر”، وحين يتحدث عن العِلم في الغرب يقول: “ولهم في العلوم الحكمية حشوات ضلالية”،(تلخيص الإبريز 86-259).
ويقدم الطهطاوي في ذات الكتاب ملخصاً عن رؤيته وموقفه ومشروعه حيث يقول: “البلاد الإفرنجية قد بلغت أقصى مراتب البراعة في العلوم الرياضية والطبيعية، ولكنهم لم يسلكوا سبيل النجاة، ولم يرشدوا إلى الدين الحق، ومنهج الصدق، كما أن البلاد الإسلامية قد برعت في العلوم الشرعية، والعمل بها، وفى العلوم العقلية، وأهملت العلوم الحكمية بجملتها، فلذلك احتاجت إلى البلاد الغربية في كسب ما لا تعرفه، وجلب ما تجهل صنعه” (ص68).
الطهطاوي في هذا النص يقدم رؤيته التي مزجت بين الأصالة والمعاصرة، وشكلت جسراً تاريخياً يربط بين الشرق والغرب، لكن المفارقة أن هذه الفكرة لو صدرت اليوم من شيخ أو داعية إسلامي لوصفت بأنها مغرقة في التقليدية، أو في أحسن الأحوال “عادية”، إنها مفارقات الزمان ودوائره التي جعلت من هذا النص في فترة ما نموذجاً للتغريب والليبرالية، وفي زمن آخر مسلمة طبيعية، لكن الأغرب أن يستمر الحكم يلاحق قائلها الأول بأنه “تغريبي”!
الطهطاوي والمرأة
دعوني انتقل لشق آخر، لنكتشف مجدداً مدى التزييف الغريب للتاريخ، في كتاب “تحرير المرأة عند العصرانيين” للدكتور عادل الحمد، يضع المؤلف رفاعة الطهطاوي على رأس الجيل الأول الداعي لتغريب المرأة المسلمة و”تحريرها”، يبدو أن هذه شائعة أخرى تتهاوى بسهولة أمام نصوص الطهطاوي الصريحة، فالطهطاوي في كتابه “المرشد الأمين للبنات والبنين” الذي ألفه في آخر حياته يقول: “لا يليقُ من النِّسَاءِ إلا كمال الصِّيانة والعفة، وسلوك سبيل الحياء”، “وأما النساء فالواجب عليهن ملازمة البيوت، لحفظ المسكن، والأنس مع الزوج، وتربية الولد، وحفظ العين من المحرمات”، وعن موقفه من الحجاب يقول: “يجب على المرأة الاحتجاب من الأجانب، ويحرم على الرجل النظر إلى شيء من المرأة الأجنبية، ولو زوجة لأخيه، أو أختًا لزوجه، ولو في حالة أمن الفتنة، وكذلك نظر المرأة إلى الأجنبي حرام”. ويرفض الطهطاوي تولي المرأة للمناصب والوظائف العامة: “معرفة شؤون الحكم على الوجه الأكمل لا يكون غالباً إلا من خصائص الرجال، فلهذا تعين أن تكون السلطة فيهم دون النساء”، “قلّ أن توجد امرأة فيها الأهلية، كما أن أبواب الشريعة والسياسة واسعة لا تطيقها عقول النساء كونهن جميعاً عورات يتعذر مخالطتهن للموظفين” (المرشد الأمين 119- 282).
أعتقد أن نصوصاً كهذه ستعتبر اليوم متشددة ومحافظة جداً، وسوف تكون مفاجئة ومربكة لكلا الطرفين، للرؤية الإسلامية التي ترى في الطهطاوي “رمزاً للتغريب”، والرؤية المستنيرة التي ترى فيه “رمزاً للتنوير والنهضة”، فالمفارقة أن هذه النصوص المتشددة من الطهطاوي تدعم اتجاه التيار الذي يعارضه ويناصبه العداء، فهي ذات الأدبيات والقيم التي يروج لها، ويسعى لتأكيدها الاتجاه الديني المناهض لأطروحات “التحرر والتغريب”، ولو انتزعت اسم الطهطاوي عنها لن يدور في بالك أبداً ولو لحظة أنها تنتمي إليه.
في الحرية والخلافة
يتتبع الباحث المصري أحمد محمد سالم في دراسته “الخطاب الإصلاحي عند رفاعة الطهطاوي”، موقف الطهطاوي من الحرية، فعلى على الرغم من تأثره بأجواء الحرية التي عاشها في فرنسا، ومن خلال قراءته لأفكار مونتسكيو، وروسو، وفولتير، إلا أنه حاول أن يصيغ موقفه من الحرية في قوالب لغوية تقليدية، قع ضمن تقاليد علم أصول الفقه، والسياسة الشرعية الإسلامية، وهذا ما يظهر في تعريفه للحرية فيقول: “إن الحرية من حيث هي رخصة العمل المباح من دون مانع غير مباح معارض محظور، فحقوق جميع أهالي المملكة المتمدنة ترجع إلى الحرية، فتتصف المملكة بالنسبة للهيئة الاجتماعية أنها مملكة حاصلة على حريتها، ويتصف كل فرد من أفراد الهيئة الاجتماعية بأنه حر يباح له أن يتنقل من دار إلى دار، ومن جهة إلى جهة، وأن يتصرف في وقته ونفسه كما يشاء فلا يمنعه من ذلك إلا المانع المحدد بالشرع أو السياسة مما تستدعيه أصول مملكته العادلة” (المرشد الأمين ص128).
فالطهطاوي يؤكد أنه لا حرية بلا قيود، هو يصف حرية محددة بقيود شرعية، وسياسية وقانونية، وكلما توفر العدل في القوانين، كان وسيلة لإعمار الممالك وتمدنها فيقول: “إذا كانت الحرية مبنية على قوانين حسنة عدلية كانت واسطة عظمى في راحة الممالك، وإسعاد أهلها في بلادهم، وكانت سبباً في حبهم لأوطانهم، وبالجملة فحرية أهالي كل مملكة منحصرة في كونهم لهم الحق في أن يفعلوا المأذون شرعاً، وألا يكرهوا على فعل المحظور شرعاً في مملكتهـم”. وهنا نلاحظ كيف سادت اللغة التقليدية في تعريفات الطهطاوي للحرية في ضوء ازدواجيات فقهية مثل المباح/غير المباح، المحظور/غير المحظور، ولا شك أن هذه اللغة التقليدية قد أسهمت في تجميد حيوية الأفكار التقدمية التي يحاول أن يدعو إليها، كما يرى الباحث أحمد سالم.
ورغم إعجاب الطهطاوي بحرية المعتقد في فرنسا، إلا أنه يؤكد ويضع شروطاً متينة لهذه الحرية بألا تكون خارجة عن أصل الدين حيث يقول: “الحرية الدينية هي حرية العقيدة والرأي والمذهب، بشرط أن لا يخرج عن أصل الدين، كآراء الأشاعرة والماتريدية في العقائد وآراء أرباب المذاهب المجتهدين في الفروع” (مناهج الألباب46).
وفي آخر كتبه “نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز” الذي يتناول فيه السيرة النبوية، يركن الطهطاوي إلى النموذج التقليدي في السياسة الحكم، وهو نمط الخلافة – السائد في عهد الدولة العثمانية – مؤكداً أن الإمامة العظمى وهي (الخلافة) واجبة على الأمة بالشرع وجوباً كفائياًّ لهم، “لتنفيذ أحكامهم، وإقامة حدودهم، وتفرُّق صدقاتهم، وسد الثغور، وتجهيز الجيوش، وقهر المتغلبة، والمتلصصة، وقطاع الطريق، وفصل المنازعات بين الخصوم” (ج3ص20).
ماذا تبقى من رفاعة الطهطاوي؟
إننا نظلم الطهطاوي كثيراً حين نراه فقط من منظار زماننا الحاضر، ونتغافل عن طبيعة الظرف التاريخي الذي كان يعاركه، وكما يقول الكاتب المصري أحمد سالم، فإن الطهطاوي يكتسب قيمته التاريخية من أنه “شكّل أحد أهم الجسور الأولى بين العرب والغرب، فهو المفكر الرائد الذي نقل إلينا في حقل الثقافة العربية مفاهيم ومصطلحات الفكر السياسي الغربي حول الوطن، والمواطنة، والحرية، والمساواة، والديمقراطية، والحقوق المدنية، وكان أحد الجسور المهمة في تعريف العرب بالثقافة الغربية، ومفردات الحضارة الأوروبية”.
وبطبيعة اللحظة التاريخية التي كان يعيش فيها، لم يكن يستطع التمرد على البنية التقليدية للمجتمع، فالظرف التاريخي، وكونه أحد رواد الجيل الأول المتعلم، كان يفرض عليه الطريقة التي يتعامل بها مع الغرب، والطريقة التي يتعامل بها مع المجتمع التقليدي المحافظ، ورغم كل ذلك لم يسلم الطهطاوي من الأحكام والأوصاف الظالمة التي مازالت تطارده، يتم انتاجها وإعادة تلقيها جيلاً بعد جيل.
ليست القضية هنا مرتبطة بالأساس بشخص “الطهطاوي”، تشكيكاً في “تغريبيته” أو “تنويريته”، بقدر ما هي محاولة لإحياء التساؤل والشك حول تلك الأحكام المطلقة، التي نشأنا عليها والتصقت بشخصيات تاريخية، فطُبعت بطابع ثابت أعاقنا عن التواصل مع إنتاجها وفهم ظروفه وطبيعته، وشكلت حاجزاً منيعاً بيننا وبين تراثها.. لكننا سنتفاجئ أن تلك الأحكام تتهاوى سريعاً حين نقلب بـ”أنفسنا” أولى صفحات كتبها، وتتساقط أمامنا “مشاريع تزييف التاريخ”.
__________
*أكاديمي وإعلامي سعودي
مجلة (المجلة) اللندنية)