*هناء عبد الفتاح
لم تعد السينوغرافيا في مسرحنا المعاصر مجرد ناقل للواقع الحياتي أو حامل لعلامات رمزية للغة النص المسرحي، فضلاً عن ذلك لم تعد مجرد رؤية تشكيلية مؤطرة، أو مؤثر من مؤثرات التقنية، بل كسرت في رؤى أصحابها المتنوعة الاستعارة من الأدب الرمز الأدبي الإنشائي أو الاستعارة الدلالية قيمتها الفكرية
والجمالية، بل أضحت السينوغرافيا لغة متفردة لها قوامها الذاتي ومفرداتها الخاصة بها ورؤاها التشكيلية في المسرح المعاصر. إنها ترسم فضاءات مختلف خشبات المسرح وتعيد صياغتها من جديد. عبر هذا المفهوم ينتقل فن السينوغرافيا من منطوق الترجمة والنقل إلى مفهوم الرؤى والابتكار. فلم يعد فن السينوغرافيا مجرد ترجمة أمينة للواقع الحياتي المؤطر أو تفصيلاً لكتل من الديكورات والأثاثات فوق الخشبة، بل أضحى مؤثراً فاعلاً في التجربة المسرحية المعاصرة ورؤاها. إن قراءة النص المسرحي هي قراءة غاية في الحساسية والدقة لرؤية لغة العرض المسرحي فوق الخشبة سواء كانت تقليدية مثل خشبة علبة المسرح الايطالي أم استقراء فضاءات مسرحية جديدة تثور على فراغات خشبة المسرح المنغلقة، وتخرج متحررة إلى الأماكن العارية التي يشكل من فوقها الفنان تجربته المسرحية.
من هذا المنطلق أصبح دور الفنان السينوغرافي البحث عن فضاءات خارجية تتشكل فيها مفردات العرض المسرحي، وتتخلق في نسيجه رؤى جديدة تطرح ذاتها بقوة وتكتشف مفردات هذه الفضاءات وتكويناتها لتتكيف وتتلاءم تكويناتها الدرامية أو النصية وفقاً لتلك الفضاءات. على أن الفنان المسرحي في النصف الثاني من القرن العشرين حاول عن رغبة دفينة منه البحث عن حيوات جديدة لعروضه المسرحية، محاولاً كسر حالة الانغلاق والانسداد التي وقعت فيها الدراما الواقعية بكل موضوعاتها وأفكارها وتشكيلها، وذلك بالبحث والتنقيب عن أشكال وأطر فنية جديدة تتخذ من هذه الفضاءات ذريعة ورهاناً لإعادة تشكيل مادتها الدرامية وفقاً لما تمليه لغة هذه الفضاءات المسرحية لإعادة تشكيلها من جديد وطرحها على جمهور قد شعر بالملل من تكرار ما يشاهده فوق خشبات المسرح، فتعيد هذه الفضاءات طزاجة هذه الأعمال وتدفعها دفعاً إلى أن يُعاد اكتشافها من جديد تماماً كما فعل بيتر بروك وكانتور وشاينا وستانييفسكي وباربا والطيب الصديقي وروجيه عساف وانتصار عبد الفتاح وكاتب هذه السطور وغيرهم من مبدعي الفضاءات المسرحية الجديدة في النصف الثاني من القرن العشرين وصولاً إلى بدايات القرن الواحد والعشرين.
الفصل
وفي ظني أن المخرج المعاصر لا يمكن له بهذا المفهوم أن ينفصل عن فهمه الدقيق لسينوغرافيا العرض المسرحي. وأؤكد أن الرؤى الجديدة لدى المخرج المعاصر تتخلق من التفكير العميق في تكوين سينوغرافية هذه العروض المسرحية المعاصرة. بل إن معظم المخرجين المعاصرين اليوم هم سينوغراف لعروضهم المسرحية، وكأن تشكيل العرض المسرحي يبدأ من هذه النقطة ويرتكز على المعرفية العميقة لفنون السينوغرافيا. إننا نكتشف أن أهم الرؤى المسرحية التي تسوغ مسرحنا المعاصر اليوم هي رؤى المخرجين/السينوغراف، ولعل معظم ما ذكرتهم من هؤلاء المخرجين هم في تكوينهم الفني سينوغراف حقيقيون. مما يؤكد أن الفصل بين الرؤية المكانية والزمانية والجمالية للعروض المسرحية ورؤى المخرجين في تفسيراتهم للأعمال المسرحية هو عبث ومجرد لغو. فلم يعد العمل المسرحي مجرد تفسير لنص المؤلف أو نقل لرؤيته، ذلك لأن رؤية مؤلف النص المسرحي هي رؤية واحدة أو كما نقول بلغة النقد قراءة من القراءات، لكنها ليست كل القراءات أو على الأصح لا يتوقف العمل المسرحي عندها، بل إن أهمية الإبداعات الفنية وعلى رأس قائمتها الإبداع المسرحي تنبع من تعدد قراءتها. ويقوم سحرها ونفاذها إلى المتفرج على هذه التعددية، التي يشارك المتفرج بذاته وفكره في تشكيل رؤيته الخاصة عنها.
وكلما اقترح العمل المسرحي في رأيي قراءات ورؤى متعددة، سمح هذا للمتفرج أكثر فأكثر في تشكيل رؤيته الخاصة أو قراءاته الذاتية.
يقول المخرج/السينوغراف البولندي تادووش كانتور أحد روّاد المسرح المعاصر: كنا نرمى في عملنا المسرحي الوصول إلى شيء آخر تماماً، ليس الوصول إلى فكرة نقل الواقع، بل الوصول إلى الفن الخالص، إلى عرض مختلف يتكون من المواد الواقعية الممتزجة معاً بالمادة الفنية.
لقد استخلصنا منابعنا من الواقع المحيط بنا (…) “وتصدمنا حقيقة فنية هامة يستطرد كانتور أنه في اللحظة التي يتواجد فيها السينوغراف، نكتشف أنه نفسه مخرج في الوقت ذاته، ويقوم بنفسه بتصميم الإطار التشكيلي، ويبدو أن هذا إطار مقتصد “كما يدّعي البعض!”.
والاقتصاد الذي يعنيه كانتور هو مصطلح يسخر به من الرأي الذي يرى أن الجمع بين الفنيين ليس معمولاً به لضرورة فنية بقدر ما هو معمول وفقاً لاقتصاد مالي. وهذا مما لا يوافق عليه كانتور فالقضية برمتها هي في الأساس فنية بحتة. في رأيه أن المخرج هو مؤلف العرض المسرحي بأكمله، حتى مؤلف الكلمة يعتبر نصه مفردة من مفردات العرض المسرحي، وليس أهمها. وتكتسب السينوغرافيا بعداً مخالفاً تماماً عن مصطلح “مهندس الديكور” الذي شاع فوق خشبات المسارح العربية ربما حتى الآن. ولقد لخص المخرج المسرحي “تادووش كانتور” في عروضه المسرحية رؤيته السينوغرافية، وأحال ما يمكن أن يطلق عليه بالديكور شيئاً آخر ليغدو مجرد قطع إكسسوار على شكل موائد عدة، وكراسي وسلالم كانت تكفيه، ليتمكن من الناحية التشكيلية تحديد الفضاء المسرحي المطلوب لعرض مسرحي بعينه، ومن ناحية الرؤية الإخراجية كان تكفيه وضعية الممثلين فوق الخشبة وخلق المناخ الفني اللازم والملائم لهم للتعبير.
فالسمة الغالبة إذن من الناحيتين (السينوغرافية والإخراجية) أنه هنا يتأكد تيار الوعي لإبداع عرض مسرحي بأكمله معاً من خلال مبدع واحد هو السينوغراف والمخرج في شخص واحد، ولا يكون إبداع السينوغراف هنا مجرد “إطار تشكيلي” فقط، بل محاولة لتجاوز التطبيق المسرحي المتصل للسينوغراف على حدة والمخرج على حدة ليكون الفنان هنا “وجهين لعملة واحدة!” إن الإبداع السينوغرافي للفنان المعاصر يمكن معاملته باعتباره نوعاً من الاختلاس الفني للميراث الفني التشكيلي بأكمله في مواجهة الأسس الجمالية الفنية الجديدة، التي كانت جوهراً وأساساً في تشكيل المسرح الأوروبي الحديث وتكوينه في أثناء الحرب العالمية الثانية وما بعدها. عندئذٍ كان كانتور يتحدث عن المصطلح الفني الشائع “ديكور” رافضاً إياه، ويصرّ في تنازله عن ما يُطلق عليه بـ”الديكورات التقليدية” مقترحاً بديلاً عنها هو “السينوغرافيا” الزاخرة بتلك الأشكال التي تعبّر عن بنية الحدث، وصيرورته، وديناميكيته، الساعية لارتفاع معدل تطور الحدث، ونموه، والوصول إلى نقاط ذروته، تلك التي تخلق توتراً درامياً، وتربط الممثل بالحدث الدرامي / المسرحي / التشكيلي، الذي تنبع منه علاقاته الديناميكية بل وجوده وحياته الفنية.
السينوغرافيا وسيط قديم
شهدت الممارسة المسرحية في العقود الأخيرة تغيرات عميقة نتيجة ظهور وسائل إعلام وتقنيات رقمية جديدة. فأصبحت تتحكم في إنتاج وتلقي العديد من العروض المسرحية المعاصرة سينوغرافيا مستحدثة تتضمن دراماتورجيا بصرية ومؤثرات رقمية سينوغرافية قلّما يمكن إخضاعها للنص الدرامي. تضع هذه الوسائط اللغة المسرحية برمتها موضع تساؤل، كما تستلزم الدفع بالجمهور إلى اختبار المخرج والسينوغراف معاً في صدقية هوية التمثيل بعد استحضار ما ورثناه من سينوغرافيا الفضاءات المسرحية ودخولها دخولاً ضمنياً في أطروحة الوسائط الأخرى، والتي أصبحت “وسيطاً قديماً” بالنسبة لهذه التغيرات الإعلامية الأخيرة وعلاقاتها بالعرض المسرحي المعاصر. وعلى الرغم من أن الاختلافات بين الحضور للعرض المسرحي الحي والنسخ المسجلة (كالمستحدثات المكانية والزمنية، والفروقات بين الأصل والنسخة) هي متداخلة في ما بينها، فإنها تزيح الافتراضات المسبقة حول الحضور الفاعل فوق الخشبة والتمثيل، وتعمل على تغيير إدراك المتلقي. هذا التحول في الإدراك لا يقلل من جودة العرض المسرحي وقيم الفرجة الحية له، وإنما يؤكد كما ترى الباحثة الألمانية إريكا فيشر أن الأداء الحي وأداء الوسائط الجديدة من دراماتورجيا بصرية ومؤثرات رقمية لا يختلفان كثيراً عن بعضهما البعض.
إن تزايد الاهتمام النقدي بهذه الوسائط في المسرح المعاصر اليوم يسعى إلى ايجاد أشكال تتعامل مع “العرض المسرح المعاصر” ومن بينها “أشكال الفرجة المسرحية” لمضاعفتها. فمن المؤكد أن هذه الظاهرة، التي أصبحت خاصية مميزة لبنية التفكير، يتسع دورها عبر عصر “ما بعد الحداثة” لدى الغرب. إذ لم يعد العالم مجرد فضاء شاسع من العناصر المتنقلة/المتحركة، بل فضاء من “الذوات الإنعكاسية” المُستقبلة والحوارية في أبنيتها. وإذا كنا قد لاحظنا دخول بعض التجارب المسرحية العربية في هذه الدائرة التي وصفها هانس ليمان بـ”مسرح ما بعد الدراما”، والتي تتميز عموماً بحوارها المتعمد مع السيميوطيقا المسرحية، فإن ما تقوم عليه هذه التجارب يدفع إلى تأجيل الاكتفاء بالمعنى الحرفي لرسالة العرض المسرحي، ذلك أن علاقات جديدة تنبثق من العلاقة الحرّة الناشئة التي تؤطر علاقة المؤدين والمتفرجين داخل فضاء العرض المسرحي. ألم يحن الوقت إذن للتحقق من هذه الممارسات المسرحية بشكل علمي؟! هذه الممارسات التي أصبحت تغزو مسارحنا العربية؟! في هذا الاتجاه تسعى هذه الورقة إلى تعميق التفكير في تواتر النصوص وفضاءات الوسائط الإعلامية الجديدة، ومختلف العلاقات الوسائطية المتاحة بينها ضمن تفاعل الوسيط المسرحي المتسم بالحيوية والمباشرة داخل السينوغرافيا وفنون إخراج العرض المسرحي وتزواجهما معاً مع تقنيات السينما والتلفزيون، والتقنيات الرقمية بخاصة. سواء في ضوء النقاشات النظرية، أو ضمن مسارات التأمل الذي تخضع له أشكال الأداء والتقبل المسرحيين لهذه النصوص المفعمة بحيوية هذه الوسائط وتقنياتها.
لقد حان الوقت للتأمل والتفكير في تلك الإشكاليات المختلفة التي نراها مؤطرة للنقاش حول مكانة العرض المسرحي على مستوى النص المسرحي والسينوغرافيا والإخراج المسرحي في إطار ثقافة تسيطر عليها وسائل الإعلام والاتصالات الرقمية. لقد أصبحت واقعية العرض المسرحي “واقعية موسعة hyperrealism”، مما يتطلب إعادة صياغة مفاهيم علوم المسرح ووسائل التكنولوجيا، وذلك الاتصال المتزامن مع تطورات هذه الوسائل، وعلاقاتها بجسد ما بعد التمثيل. فإن كل ذلك يؤثر تأثيراً كبيراً في المسرح العربي المعاصر ويشكل أسئلة تطرح حول مرحلة “ما بعد الدراما التقليدية” في مسرحنا العربي المعاصر. وحول جدوى تفكيرنا الثابت والمتقولب غير القابل للحوار والجدل مع الآخر لانغلاقنا داخل ذواتنا وإدراكنا أن ما نعرفه وما نعلمه هو الوحيد المقبول.. وهذا ما قد عرّض مسرحنا العربي وما يزال يعرضه إلى الموت!
________
*مخرج من مصر (الهيئة العربية للمسرح)