*إبراهيم العريس
اشتهر الباحث الروماني الأصل ميرشيا إيلياد بواحد من أهم الكتب التي درست تاريخ الأديان والمعتقدات الروحية والتي وضعت في القرن العشرين «تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية». ولقد بلغت شهرة هذا الكتاب الواقع في أكثر من ألفي صفحة أن كثراً من القراء نسوا أن إيلياد الذي وضع معظم كتبه بالفرنسية وأحياناً بالإنكليزية، ودرّس خصوصاً في جامعات الولايات المتحدة، وضع عدداً كبيراً من الكتب الأخرى، وكذلك ألف روايات غريبة الأجواء فلسفية اللغة والمواقف، منها واحدة حوّلها المخرج الأميركي فرانسيس فورد كوبولا فيلماً منذ سنوات قليلة. غير أن ما يشفع للقارئ «الناسي، هو أن القسم الأكبر من أعمال ايلياد، سواء كانت كتباً تاريخية – دينية ضخمة، أم مؤلفات أصغر حجماً أم نصوصاً ابداعية، تدور دائماً حول مواضيع أثيرة لديه، قليلة العدد جداً، أبرزها مسألة المقدس وعلاقة الإنسان به منذ فجر التاريخ. وهنا إذا قلنا «مقدس» لا بد على الفور من أن نضيف بالتالي: أسطورة، حتى وإن كنا نعرف أن اهتمام ايلياد بالأساطير كان ضمن اهتمامه بتاريخ الأديان والمقدس، لا العكس… أي أنه في هذا يقف، دراسةً، على النقيض من عالم الإناسة الكبير كلود ليفي ستراوس الذي كان اهتمامه بالأسطورة إنساني البعد أولاً وأخيراً. بالنسبة إلى ايلياد، المهم قبل أي شيء آخر، هو دراسة المقدس، لأن ما من دراسة حقيقية لكينونة الإنسان، منذ ظهوره في الكون، يمكن أن تقف خارج تلك الدراسة. وإذا كنا نطالع هذه الفكرة الأساسية والتأسيسية في معظم نصوص ميرشيا ايلياد، فإننا سنجدها أكثر وضوحاً لديه في واحد من كتبه المبكرة وهو كتاب «أسطورة العود الأبدي» الذي أصدره العام 1949، أي في زمن كان ايلياد لا يزال يعتبر فيه عالم اجتماع وحسب. وهو أتى من هذا الكتاب ليخلص نفسه من ذلك التصنيف الأكاديمي الخالص، وليفتتح سلسلة أعماله التي راحت تتوالى في علاقة مباشرة مع تطور أفكاره وبحوثه حول المقدس والإنسان وتاريخ الأديان في صورة عامة.
غير أن هذا التطور الذي نشير إليه هنا، لم يجعل من «أسطورة العود الأبدي» نصاً قديماً تم تجاوزه، بل أتى -أي التطور- ليؤكده تأكيداً مدهشاً. ولعلنا لا نعدو الحقيقة إن نحن قلنا هنا، إن معظم بحوث إيلياد التالية، بما فيها كتابه العمدة «تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية» إنما هي تنويع على ذلك الكتاب المبكر. ومنذ بداية الكتاب يلاحظ القارئ المهتم أن ايلياد ينطلق فيه من تفكير الإنسان البدائي، تماماً على نفس الشاكلة التي ينطلق بها مفكرون آخرون لدراسة تاريخ الفكر اليوناني انطلاقاً من الإنسان الذي كان موضوع ذلك الفكر، أو الثورة الفرنسية انطلاقاً من تاريخها الإنساني الخاص. ويؤكد لنا ايلياد بداية أن السمة الرئيسة التي تطبع فكر الإنسان البدائي، إنما هي فكرة التناسق الأصيل والفهم الجذري للبيئة المحيطة، اللذين يجعلان الإنسان قادراً حقاً على أن يسكن عالمه من دون تصنّع. وعلامة هذا هو الطبيعة نفسها، هذه الطبيعة التي هي منطقياً العالم نفسه بالنسبة إلى الإنسان البدائي، والتي لا تُترك هنا أبداً عرضة للامعنى الذي تخلفه الأحداث العارضة، عادة، أي الأحداث التي تصنع ما يسمى التاريخ.
بالنسبة إلى الإنسان البدائي يتخذ العالم طابعاً أونطولوجياً لا طابعاً تاريخياً. التاريخ لا وجود له بالنسبة اليه. وفي هذا المعنى لا يعود للإنسان ذلك الموقع المركزي الذي يسبغه عليه الفكر الإنساني النهضوي. وفي المقابل، إذا كان موقع الإنسان يمنعه من أن يؤلّه نفسه، فإنه يعطيه مكانة أساسية في الكون. وفي هذا الإطار يصبح واضحاً كيف أن إيلياد يصر على أن القداسة ليست هنا، كما يحلو للمفكرين «العقلانيين» أن يقولوا، مقولة سيكولوجية تعيش تدهوراً دائماً وتراجعاً مع تقدم الإنسان في علاقته مع التاريخ، بل هي ترتبط بالإنسان منذ ولادته، وتكون هي من يعطيه مداره الروحي. وهكذا، بدلاً من أن يكون كل تقدم تقني خطوة على طريق إبعاد الإنسان عن تلك النزعة الروحية، يصبح خطوة إضافية على طريق تأكيد إنسانيته وبالتالي سماته الروحية. وهكذا، أيضاً، خارج نطاق هذا التطور التقني الذي يخدم الروح أكثر ما يخدم، لا يعود للإنسان، في سلوكه الشخصي، أية علاقة بالتاريخ. التاريخ لا تعود له، بالنسبة إلى الإنسان، علاقة بكينونته بل بما يكتسب… وبالتالي بما يضاف على مر الزمن إلى تلك الكينونة من خارجها. وعلى ضوء هذا يصبح المسعى الأساس للإنسان طوال وجوده، تبرير ما يمكن أن يكون عارضاً في سلوكه، عبر دمجه في التجديد المتواصل لزمن المقدس لديه. ومع هذا فإن هذا «الجديد» والذي لا يمكنه -في نهاية الأمر- إلا أن يكون تاريخياً ومندفعاً إلى الأمام في شكل لا رادّ عنه، هذا الجديد سيكون مستبعداً -على أي حال- من فكره التأملي، الذي يقف خارج كل تاريخيته، مهتماً فقط بفكرة العود الأبدي -أي الدائم- للأفعال ذات الإنجاز الألوهي.
وميرشيا إيلياد، إذ يصل في تحليله إلى هذا الحد يصرخ (كما فعل ليفي -ستراوس- في مجال حديثه على صعيد آخر عما خسره الفكر الغربي العقلاني حين رفض أن يلتقط اليد التي مدها هنود أميركا الحمر إلى كريستوف كولومبوس مرحبين، فإذا بالذي أتى «مستكشفاً» يتحول جزاراً): انظروا كم فقد الإنسان إذ تخلى عن تلك الثقافة الأصيلة! كم كانت خسارة للإنسانية أن يُقطع الإنسان عن ثقافته الطبيعية القدسية ليرمى به فريسة في فك التاريخ، أي تلك الكارثة المتسارعة! والحقيقة أن ميرشيا إيلياد، إذ يطرح هذه الأسئلة الشائكة، لا يحاول أبداً أن ينسينا أن فلسفة التاريخ، ولدى بعض كبار الذين اهتموا بتدوينها وشرحها، وفي مقدمهم الفيلسوف الألماني هيغل، لم يفتها أبداً أن تؤكد -عقلانياً- ما يؤكده هو، حين يرى ايلياد في افكار حول مثل هذا الموضوع عبّر عنها هيغل في نصوص عديدة له، مثل «أصول فلسفة الحق» و «فلسفة التاريخ» ولا سيما «موسوعة المصطلحات الفلسفية»، نزوعاً إلى الوقوف في حيرة وإعجاب أمام الفكر البدائي الأصيل، ذلك الفكر «الذي احتوى الكينونة في شكل طبيعي من دون أن يرى من واجبه أن يفلسفها». ومع هذا فإن ايلياد ينبهنا إلى أنه اذا كان الفكر العقلاني الهيغلي قد توقف عند تلك الأصالة، فإنه إنما تحدث عنها كما لو كانت حلماً غير متماسك، جزءاً من طفولة الإنسان. أما بالنسبة اليه هو، أي ميرشيا ايلياد، فإن الدور الذي يأخذ المقدس على عاتقه لعبه في حياة الكينونة، إنما هو الدور القائم في وضع كل ما هو موجود في علاقة تامة مع كينونته الخاصة. وبهذا تنتفي كلياً فكرة أن يكون لدى أصحاب الفكر البدائي أي لفته صوب ما يمكن تسميته تاريخ الإنسان… طالما أن هذا التاريخ لا يعود موجوداً على اعتبار أن الوجود يصبح، في الفكر البدائي، هو الجوهر، ولا يعود الوجود تفسيراً للجوهر، أو الجوهر تبريراً للوجود.
عندما وضع ميرشيا ايلياد (1907 – 1986) هذا الكتاب في العام 1949، كان في الثانية والأربعين من عمره. وسوف يقول لاحقاً إن اشتغاله على «أسطورة العود الأبدي» لم ينتج لديه عن الغرق في أي أزمة روحية، كما حاول بعض كاتبي سيرته أن يقولوا. في معنى أن صياغته لهذا النص الذي سنجد معظم أفكاره موزعة لاحقاً في كتبه التالية، سواء أرّخت للأساطير، أو للمعتقدات الدينية -لأن هذا كله يمتزج في نهاية الأمر لدى ايلياد امتزاجاً تاماً، إذ يدور كله من حول كلمة واحدة كانت وظلت دائماً أساسية لديه: المقدس-، بحيث يمكن النظر إلى أسطورة العود الأبدي -كمفهوم وككتاب- باعتبارها الأسطورة المؤسسة لكل ذلك المتن الذي شكلته كتب ايلياد.
والواقع أن المرء، إذ يغرق في قراءة روايات ميرشيا ايلياد، حتى وإن نحّى دراساته العلمية الغزيرة، جانباً، سوف يدهشه أن يكون هذا الكاتب، استخدم نفس المفاهيم كعمود فقري لعمله الروائي. ومن هنا لن يكون غريباً أن نلاحظ أن عدداً لا بأس به من رواياته، تدور أحداثها في الهند. ذلك البلد – القارة، الذي درسه ايلياد طويلاً وفي العمق، على اعتباره صاحب الحضارة التي لم تتوقف عن أن تخص المقدس بكل اهتمامها، ولا سيما المقدس في علاقته مع الطبيعة من ناحية ومع الانسان من ناحية ثانية.
_________
*(الحياة)