* محمد رُضا
تنطلق في التاسع عشر من يوليو (تموز) الحالي، عروض فيلم المخرجة السعودية هيفاء المنصور «وجدة» على شاشات بريطانية في أكثر من مدينة بينها لندن مصحوبة بحملة دعائية شكلها النقد الغربي من حول الفيلم بعدما نال تقديراتهم العالية وعلى أكثر من وسيط إعلامي. وهو نجاح حاذاه أيضا اهتمام جماهيري في أكثر من بقعة حول العالم آخرها في فرنسا، حيث استمرت عروض الفيلم بضعة أسابيع باع خلالها أكثر من 250 ألف تذكرة.
ليس أن الفيلم خال من الشوائب والسلبيات، لكن أحد أهم أسباب نجاحه هذا يترجم على أساس استقبال النقاد والجمهور الغربي له من خلال طروحاته وليس من خلال معالجته تلك الطروحات في المقام الأول. إنه فيلم عن طفولة حالمة، وأمومة محرومة، وحرية غير محققة في فيلم من إخراج امرأة سعودية. الجمهور لا يسأل إذا ما كان ما يراه حقيقيا، بل يأخذه على هذا المنوال مستندا في الأساس إلى ما يوفره الفيلم من أحداث وما يعتقد معظم الجمهور أنه يعرفه عن حياة المرأة السعودية.
ليس أن الفيلم يكذب بالضرورة فيما يرويه، بل المسألة هي أن مخرجته عرفت كيف تخلق حالة إعلامية منبعها فيلم يعالج ما يجذب المشاهد الغربي إليه. عرفت كيف تحيك حكاية ذات براءة محسوبة حول فتاة صغيرة تحلم بدراجة وعلى درجة من الدهاء بحيث إنها تحقق في النهاية ما حلمت به رغم العراقيل التي واجهتها في البيت وفي المدرسة.
لا يتوقف الفيلم عند هذه الحالة، فيما يتسنى له من الوقت يعرض للأم التي عليها تحمل نتيجة أن الزوج الذي تحب مضطر للرضوخ لتقاليد المجتمع والبحث عن زوجة ثانية تؤمن له ولدا ذكرا. ثم لعرض مشكلة بالغة الأهمية تكمن في أن تسليم البنية التحتية للحياة اليومية لغير سعوديين (بينهم سائقو الحافلات المدرسية) يخلق هوة تعامل قد تجد المرأة فيها نفسها ضحية أيضا.
«الدراجة ليست شاشة مسطحة»، تقول المخرجة للصحافية إيزابيل ستيفنز في حديث منشور في العدد الحالي من «سايت أند ساوند» وتفسر معنى ذلك مكملة: «إنها رمز العصرنة». وهي تصيب في هذا التعريف من حيث إن نيل بطلتها الدراجة سيعني احتمال قيادتها السيارة في المستقبل. لكن هناك ناحية أخرى رمزية في تلك الدراجة وهو الاحتمال الشديد في أن تكون المخرجة تتحدث أيضا عن نفسها إذ هي طمحت – منذ أن كانت صغيرة – لامتلاك كاميرا ولتصوير أفلام واحتلال لقب مخرجة. ومع أنها تؤكد في حديثها ذاك أن عائلتها كانت منفتحة حيال طموحاتها السينمائية، إلا أن هذا لا يبدد احتمال أن تحقيقها لغاياتها الفنية تلك كان مسألة صعبة، أو أنه كان بالسهولة ذاتها لمخرجة فرنسية أو بريطانية أو أميركية شابة.
نجاح «وجدة» هو أفضل نجاح ينجلي لفيلم عربي في الاثنى عشر شهرا الماضية (كل سنة تقريبا يفلت فيلم ليدخل هذا المجال كما حدث مع فيلمي اللبنانية نادين لبكي «سكر بنات» و«هلأ لوين؟»). وبعض من هذا النجاح يعود، أيضا، إلى ما تم ترديده من أن هذا الفيلم ليس أول فيلم لمخرجة سعودية فقط، بل أول فيلم يتم تصويره في السعودية أيضا. أمر شكل بعض الأهمية في التغطية الإعلامية على الرغم من أن صحته لا تزال قيد نقاش باعتبار أن بضعة أفلام سبق لها وأن تم تصويرها في المملكة قبل هذا الفيلم وتم تقديم بعضها على شاشات مهرجانات خليجية مثل «مهرجان الخليج السينمائي» ومهرجان «دبي» الدولي.
الوجهة الذاتية المنطقة الضبابية هنا هي ما الذي يمكن اعتباره فيلما سعوديا من حيث المواصفات الضرورية لهذا الاعتبار. ففي الواقع نجد أن فيلم عبد الله المحيسن «ظلال الصمت» الذي أنجزه عام 2006 هو فيلم سعودي بالكامل رغم أن تصويره تم خارج أراضي المملكة. وفي العام ذاته قامت «روتانا»، منتجة فيلم «وجدة» بإنتاج فيلم كوميدي بعنوان «كيف الحال» حيث تمت الاستعانة بالمخرج الفلسطيني – الكندي إيزادور مسلم للغاية. الفيلم تم تصوير كثير من مشاهده في دبي، لكن هناك مشاهد تم تصويرها في جدة.
إذا ما كان التمويل هو مصدر هوية الفيلم السينمائي، وهو كذلك فعلا، فإن هناك عددا متزايدا من الأفلام السعودية تراكم وصولا إلى فيلم «وجدة»، من بينها «القرية المنسية» لعلي أبو طالب و«الحقيقة» لأسامة الخريجي و«صباح الليل» لمأمون البني و«الشر الخفي» لمحمد هلال، من بين أخرى.
لكن أيا من هذه الأفلام لم يبلغ الشأن الكبير الذي حققه «وجدة». وليس خافيا أن بعض الأفلام المذكورة لم ترد أن تبلغ شأنا فنيا أو استثنائيا معينا مثل «كيف الحال» و«صباح الليل» و«القرية»، كل منها وأفضلها فنيا هو «كيف الحال» لم يحمل من طموحات الإنتاج ما يكفي لإيجاد مبرر ما لمشاهدته عربيا ناهيك بعالميا.
«ظلال الصمت» هو الوحيد، قبل «وجدة» الذي كان يهدف إلى احتلال حضور متألق على الصعيد النقدي والجماهيري خارج المهرجانات القليلة التي عرضته. لكن الطموحات لم تنجز. عوض اختيار موضوع سعودي أقدم المخرج على موضوع عربي شامل معالج (في غالبه) بالفصحى مع غاية بانورامية لوصف العلاقة بين الحكم والشعب في أي بلد من دون تحديد. هذا، مع انعدام القدرة على معالجة فنية مطلقة أو قراءة عميقة، أدى إلى فيلم جيد الفكرة، مقبول التنفيذ لكنه بلا قوائم فنية أو تجارية كافية لتحريكه في أي اتجاه.
ما ينجلي عن هذه المسارات ونتائجها، حقيقة مهمة للغاية، وهي أنه حتى مع الاعتراف بأخطاء فنية معينة في فيلم «وجدة»، إلا أنه تحرك في الاتجاه الصحيح عندما أصر على أن يكون عملا يعكس الذات وليس مجرد تنفيذ لحكاية. ما أكدته هيفاء المنصور هو أن الفيلم الذاتي، الذي يعكس رؤية المخرج الشخصية، هو السبيل الفعال الوحيد أمام سينما ناشئة. لا يكفي أن يحمل الفيلم فكرة ولا رأيا، فهناك كثير منهما، لكن عليه أن يحمل مشاركة ذاتية مع الموضوع تتخطى حدود التنفيذ وحده.
* مهرجانات «وجدة»
* العرض العالمي الأول لفيلم هيفاء المنصور تم في دورة 2012 من مهرجان فينيسيا السينمائي (أوغسيس – سبتمبر). بعد ذلك انتقل إلى مهرجان تيليورايد (الولايات المتحدة)، وروتردام (هولندا)، وغوتبيرغ (السويد)، وبلغراد (صربيا)، وسيدني (أستراليا)، لوس أنجليس (الولايات المتحدة) و«كارلوفي فاري» (تشيكيا).
________
*(الشرق الأوسط)