“جمعة اللامي”.. وأنا


مريم الساعدي*

قبل عقد من الزمان، كنت قد تخرجت للتو في الجامعة، وكانت الكتابة هاجسي، أم أحلامي كلها. ورغم يقيني بأنها قدري، إلا أنني لم أعرف كيف أوجه هذا القدر. لم تكن الأجواء مهيأة كما هي الآن، ولم يكن أحد حولي أحدثه عن الأمر.

حتى قررت أن أضع أوراق قصة كتبتها بخط اليد في مظروف وأكتب عليه «إلى الأستاذ جمعة اللامي-جريدة الاتحاد- ص ب …». في الأسبوع التالي، وجدت القصة منشورة في صفحة «على الدرب» التي كان يشرف عليها الأديب العراقي جمعة اللامي آنذاك. تشجعت وأرسلت قصة ثانية، وبعدها بفترة تم نشرها. في العدد التالي، وجدت عموداً عنوانه اسمي! «مريم هلال الساعدي، كاتبة إماراتية شابة من العين، نشرنا لها في الأشهر القليلة الماضية قصتين كانتا محط اهتمام ذلك النفر الشديد الحساسية إزاء الكتابات القصصية. من خلال نافذة ما، أتيح لي أن أتعرف إلى الأشواق التي تنغمر فيها هذه الكاتبة الشابة، حتى تحولت الكتابة إلى محاولة شجاعة للدفاع الذاتي من جانب، ومن جانب آخر مغامرة غير مأمونة العواقب في الاقتراب من الآخر والغوص في دواخله وعوالمه السفلية، إنها كاتبة أفكار، أي أنها تبحث في مصائر وحيوات شخوص إنسانية تعذبها ألغاز وأسئلة هذا الوجود الإشكالي الذي يجابهنا، منذ أن نطلق صرختنا الأولى، إلى أبعد من كلمات التلقين الأخيرة».

وعقدت لساني الدهشة، أن يقرأك أحد هكذا، ويهتم بأقصوصات كنت تظنها لن تلفت الانتباه، فإذا بالأديب الكبير يتناولها بعين الإحساس وروح الإنسان الذي ينقب في الكلمات باحتراف عالم آثار يبحث عن آثار الحياة في كل ما يجابهه. هل تدركون ماذا يمكن أن تفعل كلمات كهذه في نفس كاتب مبتدئ؟

«لقد برزت مريم الساعدي من دون مقدمات، انطلقت نحونا، لتجعلنا نقف أمامها باحترام وتقدير.. فإنها على دراية كافية بالمعاني الأخلاقية التي يتصدى لها كاتب القصة الحقيقي». وكنت في الواقع أقف وأنا أقرأ هذه الكلمات احتراماً وتقديراً وامتناناً لرجلٍ وجد فيما كتبت من القيمة ما يستحق كل هذه الإشادة.

كم من كاتب مخضرم الآن يتكلف عناء تخصيص عمود عن تجربة شابة ويقرأها بكل هذا الشغف؟.

أتذكر كلمات جمعة اللامي لا تفاخراً واستعراضاً، ولكن لأن جمعة اللامي الآن مريض. أُدخل على نحو طارئ إلى أحد مستشفيات الشارقة، وكان قد عاد من رحلة علاج في الأردن على نفقة صاحب السمو حاكم الشارقة، إلا أن حالته تدهورت ولا يزال بحاجة لاستمرار العلاج. أبناؤه يضعون في صفحته على «فيسبوك» صورته التي بدت عليها آثار المرض بشكل مؤلم، ويعتبون على الحكومة العراقية التي تتمهل في التكفل بعلاج والدهم على نفقة الدولة.

جمعة اللامي أديب قدير، ورجل نبيل، وإنسان لم يطأ يوماً نملة. لم ألتقِ به شخصياً حتى الآن، ولكن طيب ذكره وصلني وجعلني أحس بأني أعرفه منذ ولدت.

جمعة اللامي عاش بيننا، في أرض الإمارات الطيبة المعطاءة الكريمة، وأعطاها من وقته وعمره وإخلاصه بكل صدق ومحبة، فهل يصح أن ينتظر اللامي من يتكفل بعلاجه غيرنا؟!

«مريم الساعدي، صوت قصصي، أرى أنه جدير بشرف الكتابة الحقيقية، هذه الكتابة التي هي مطهر نغتسل به ونتجدد، ونعلن من خلاله حضور الإنسان المعذب بحريته ومصيره وأسئلته الوجودية الكبرى». هكذا ختم أستاذي اللامي، قبل أكثر من عشر سنوات، مقاله عني، وربما أكون قد خذلت توقعاته، ولكن كل ما أرجوه الآن ألا تخذله هذه الأرض التي عليها عاش، كما خذلته تلك التي فيها وُلد.

* قاصة من الإمارات

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *