لماذا نقرأ الروايات ؟


*إعداد وترجمة: إسماعيل أزيات

لماذا نقرأ مدام بوفاري أو شفرة دافنشي ؟ لماذا الافتتان بحكايات مختلقة و البكاء على مصير شخصيات لم توجد قط ؟ ليست التسلية هي الإسهام الوحيد للأدب، فهو عبر منعطف التّخييل يوسّع من خبرتنا و يمنحنا نظرة أخرى للعالم و لذواتنا.

الرواية تعيش وضعا جيّدا. تعرف في فرنسا رواجا كبيرا يفوق رواج مؤلّفات العلوم الإنسانية بأضعاف. دون الأخذ في الحسبان الأدب المزدهر للشّباب. لماذا هذا النّجاح ؟ الإجابة جليّة. لا تدّعي الرواية الحقيقة، و لا الموضوعية. تقتضي مطالعتها جهدا يمتدّ لساعات عدّة، لأيّام عدّة، بل لأسابيع عدّة. لجني أيّ محصول، أيّ مردود ؟ عن ماذا نبحث عند قراءة رواية لا نعثر عليه لا في الأعمال النظرية أو التجريبية، لا في الأشرطة السينمائية، لا في سيل المُسلّيات الموضوعة تحت تصرّف المستهلك المعاصر ؟
المفرد، الزّائل، الصّغير
قبل الشروع في هذا الاستقصاء، نبدأ بطرح تساؤل حول اصطلاح ” رواية “. نتكلّم عن أيّ شيء ؟ وراء اللفظة ذاتها تتصادم أنماط من النّصوص جدّ متنوّعة؛ رواية الأطروحة، الروايات الواقعية، البوليسية، الروايات المسلسلة، الروايات الرسائل، روايات محطّات السّفر، الروايات الموجّهة للنّساء، الروايات المكرّسة للأطفال، روايات الفروسية… غالبا ما ننزع إلى أن نقصي من الجنس الروائي الخرافات، الحكايات، الأقاصيص، المرويات، المذكّرات. غير أنّنا نقبل أحيانا الأشكال السردية الجديدة الرّائجة بواسطة الأنترنت. هذه التصنيفات ليست دائما مقنعة. و لذلك يظل تنبيه أو تحذير موباسان محتفظا بقيمته : ” الناقد الذي ما زال يتجاسر على الكتابة : هذه رواية و هذه ليست رواية. يبدو لي قد وُهب ذهنا حادّا هو أشبه ما يكون بالمنعدم الخبرة “.(1)
الرواية جامعة إذن، و هذه هي العلّة في عدم وجود أيّ باعث أحادي في الاستغراق في قراءتها. نوع دائم التحوّل، له كثايت عدم ثباته. مهما كانت المعارف التي ينقلها، و الطموحات النظرية التي يمكن أن تكون له، يظلّ أقلّ الخطابات علمية. لا تعرض الرواية وقائع، لا تتحرّى تصوّرات، لا تستنبط أفكارا. تقابل صرامة العلم بالمحتمل و غير المتوقّع، و في مواجهة الشّمولي و المجرّد، تبسط المفرد، الزائل، المتناهي الصّغر، الحسّي، مصادفة لقاء، خفقان قلب، شدّة انفعال أو قسوة مشاجرة… و من ثمّ هذه الرّغبة في إدراج الروايات ضمن دائرة الفعاليات المُسلّية، لا بل العاطفية، بينما تحتفظ لنفسها الأعمال الأكثر تعليمية بالدائرة المعرفية. ” المجال الحقيقي للمعرفة هو العلم. التّخييل ليس مطلقا معرفة ” يجزم رولان شوسترمان، المتخصّص في الجماليات.(2)
الإلمام بشكل أفضل بما هو إنساني
مع ذلك، ترتفع أصوات عديدة تؤكّد ” قدرة الكشف ” أو أيضا ” الفعالية المعرفية ” للأدب. ما نلتمسه في الروايات سيكون ” إلماما أفضل ” بما هو إنساني، بالعالم ، بالحياة. هكذا يذكّر تودوروف ب” أنّ الأدب هو أوّل العلوم الإنسانية ” . و يثبت جيرار جينيت، جان ماري شايفر و راينر روشلتز، كلّ على شاكلته أنّ إسهام الأدب هو من طبيعة معرفية. يبحث المؤرّخون في الأدب عن ” حقائق تاريخية “. بل حتّى العلوم تساهم في هذا الصّرح النّظري : مسلّحة بمعارفها حول ميكانزمات الدّماغ، تسعى إلى تحقيق اختراقات في مجال النقد الأدبي.
في خضمّ هذا الفوران، يظل هناك سؤال يربك و يبسط حدود التقاسم بين الأدباء، و السوسيولوجيين، والمؤرّخين، و العلماء : أيّ نمط من المعرفة النّوعية تنقلها الرواية ؟ تستطيع الروايات، بالتأكيد، إعادة بناء العالم التاريخي، فكّ رموز العلاقات الاجتماعية، أو إخبارنا، بكيفية مؤثرة، بالنفسانية الإنسانية. لكنّها من هذا المنظور، ليست لها أية فرادة بالقياس إلى العلوم الإنسانية، إلى البحث و الدّراسة، أو إلى السينما. و لذلك يلزم التمييز بين محتوى المعارف التي يُعتبر النص حاملا لها، و بين المتخيّل الذي يبين عنه هذا الأخير. اختزال جول فيرن في مجرّد مبسّط لعلوم عصره، هو التغاضي عن البواعث التي تدفع المراهقين دائما للافتتان بأحلام الكابتن ” نيمو ” ( 1870)… كذلك، يمثل “الغريب” ( ألبير كامو ـ 1942 )، من بعض الوجوه، توليفا للموضوعات الكبرى في الفلسفة الوجودية : العزلة، الموت، الغيرية، العبث. لكن، و كما لاحظ رولان بارث ” ما يجعل من “الغريب” أثرا، و ليس أطروحة، هو أنّ الإنسان فيه يجد نفسه في حاجة ليس فقط إلى أخلاق، و إنمّا أيضا إلى مزاج دعابة ” .(3) يمكن أن نقول ذات القول تماما بخصوص روايات ميشيل هولبيك الذي يعلمنا عن النفسانية العاشقة، لكن تظل القيمة الأساسية متعلّقة بالمرح غير المسبوق الذي ينبعث منها. المرح، هو جوّ عالم راقد على الورق، أو مزاج الدعابة لشخصية مختلقة : نستشعر بالحدس أنّ كلمات المؤلّف تقول” بعض أشياء ” متفرّدة عن عصرنا، و عنّا نحن. و لأنّ نسيج الروايات تحديدا مصنوع من الأحلام و من الكلمات و ليس من الوقائع و الأفكار، فإنّها تغني، في نفس الآن، كفايتنا اللغوية و معرفتنا بالواقع. بنسفها للتصنيفات المعدّة للتفكير فيما هو إنساني و ما هو اجتماعي، فإنّها، زيادة على ذلك، تمنح ” مادة هائلة لإثارة و تحريض مخيلة السوسيولوجيين ” كما تخال آن بارير و يعتقد دانيلو مارتوشيللي.
حيوات بالوكالة
من جانبها تهتم الفلسفة الأخلاقية بالوظيفة البيداغوجية للرواية. مارتا نوسبوم، واحدة من الممثلات المشهورات لهذه الفلسفة تلحّ على مقدرة التّخييلات على إظهار ما تخفق الفلسفة في البرهنة عليه. قوام فنّ الروائي أن يرى العالم؛ قوام فنّ القارئ يؤوب إلى أن يقترض عيون شخص آخر هو السّارد. بهذا الخصوص، تجيز الرواية لنفسها، بالتناوب، أن تعثر على نفسها و هي في جلد متحرّ، عاشقة، ديكتاتور، يتيم. يبيح التّخييل لنا، إذا صحّ القول، حيوات بالوكالة. إنّها، بهذا المعنى، تتصرّف كمضاعف للتجارب بدءا من الطفولة. تضعنا إذن في تماس مع تعقّد حيواتنا الشخصية كما حيوات الآخرين. من جانبه، تحدّث الفرنسي ميشال بيكار في ” القراءة باعتبارها لعبا ” ( 1968 ) عن ” وضع نماذج من خلال اختبار الواقعة التخييلية”. على هذا النّحو، يختبر القارئ وضعيات لا يستطيع أن يحياها في الواقع. يمكنه أن يختار بعضها، أن يرفض أخرى و يحوز مزايا هذه التجارب دون التعرّض للمخاطر الحقيقية.
في هذا الصّدد، فإنّ واحدا من الأبعاد المؤثرة في قراءة الرواية يتمثّل في وظيفتها التخاطرية. أثناء قراءة الرواية، كلّ قارئ يباغت نفسه يتلفّظ ذهنيا بأفكار ليست أفكاره. هكذا، و أنا أتقدّم في قراءة ” مذكّرات أندريان ” لمارغريت يورسنار ( 1951 )، أخذتُ لحسابي الشخصي ضمير ” أنا ” المتكلّم. وجدتُ نفسي مندفعة في رأس امبراطور روماني في ليلة حياته. هذا الاستبطان للآخر يفسر الحميمية الاستثنائية التي نحسّها تجاه بعض الشخصيات. نحسّها تحيا، تتكلّم، تتصرّف ” فينا “. هذه التجربة الخصوصية، المُزعجة تارة، المُبهجة تارة أخرى، ليس في إمكان شريط سينمائي أن يحدثها. نفهم آندئذ لماذا نقل الروايات إلى شاشات السينما يبدو مخيّبا.
فضلا عن سيرورتها المعرفية، تتكشّف القراءة أيضا و بالنتيجة كسيرورة عاطفية مؤثرة للغاية. كلّ رواية تخاطب ذكاءنا، و لكن أيضا قلبنا. بعد امبرطو إيكو الذي يقارن قراءة الرواية بلعبة الشطرنج (4)، تناول ميشال بيكار هذه الصورة من جديد ليُغنيها. فبحسب قوله، توفّق قراءة الرواية بين ممارستين لعبيتين متغايرتين : le game et le playing . الأولى كما لعبة الشطرنج تتجذّّر في العقل : إنّها لعبة التفكير التي تستدعي الذّكاء، مقدراتنا على التكيّف و التوقّع، حسّنا التنظيمي. الثانية تتجذّر في التّخييل : إنّها لعبة الدّور ، تنبني على التماثل أو التقامص مع صورة متخيّلة. من جهة، يهرب القارئ مع الشخصية، يسافر في الزّمن، و يعيش مغامرات مختلجة؛ من الجهة الأخرى، يعبّر عن افتراضات حول تتمة الحكاية، و يحافظ على حسّ نقدي. ميزة هذا النموذج أنّه يردّ الاعتبار ” للسّفر المتخيّل ” الذي يقترحه كلّ تخييل سردي، دون التغاضي لهذا السّبب عن البعد الفكري و التأمّلي للقراءة.
عودة المتعة
ضمن هذا المسار، يسائل بعض منظّري الأدب مفهومات الانفعال، المتعة، و الهرب. لأنّ الغالبية السّاحقة من القرّاء تؤكّد ذلك : يقرأون الروايات أوّلا ليهربوا و يتسلّوا، أكثر من إعمالهم للفكر أو اكتسابهم لمعارف. هذه البديهية التي ازدرتها نظرية الأدب طويلا، تجد لها بواعث جديدة و جديّة. هكذا، يقترح فانسان جوف مؤلف كتاب ” الشخصية ـ الفعل في الرواية ” إعادة وضع الشخصية في قلب سيرورة التواصل الأدبي. هذا المنظّر الأدبي يرى في التماثل أو التقامص مع الشخصيات أساس انفعالاتنا الأدبية : ” و لأنّ صلة عاطفية تجمعنا مع Lucien de Rembpré ننشغل، و نحن نتابع قراءة رواية الأوهام الضائعة ( بلزاك )، بالأسباب ـ النفسانية و الاجتماعية ـ التي تسبّبت في ضياعه. و لأنّ شخصيات بروست هي، مرّة فمرّة، مغرية، سمجة أو مضحكة، فإنّنا نذرع بمتعة عالم البحث عن الزمن الضائع، قابلين، بنفس الأثر، رؤية الحياة و الفن المنعكسة فيه. إرادة إفراغ التقامص ـ و بالنتيجة العاطفي ـ من التجربة الجمالية، يبدو لي وقتئذ منذورا للإخفاق “.(5)
يمكن الذهاب بعيدا أيضا و الجزم بأنّ الانفعالات التي يتمّ الإحساس بها، و الأحلام التي يتمّ التعبير عنها أثناء القراءة لها أثر حاسم ليس فقط في التأويل الذي نقوم به لرواية ما، و إنّما أيضا في وجودنا المخصوص. القارئ لا يخلط بالضرورة أفعاله بأفعال الشخصيات ( أن يحبّ Sade ليس أن يصير ساديا، أن يقرأ ميكيافيللي، لن يجعله ميكيافيليا ). لكن يمكن أن ينقل إلى حياته أمزجة، انفعالات، و تعابير مقترضة من الرواية الأثيرة. جملة أوسكار وايلد، بخصوص شخصية من شخصيات بلزاك ظلت ذائعة الصّيت : ” موت Lucien de Lembpré هو أكبر مأساة في حياتي “. و هذا ما يؤيّده الكاتب المعاصر فارغاس يوسا و إن على طريقته : ” حفنة من الشخصيات الأدبية طبعت حياتي بشكل مستديم أكثر ممّن تعرّفتُ عليهم من ذوي اللّحم و الدم “. نعرف أيضا أنّ رواية ” Werther لغوته ( 1771 ) حرّضت المراهقين على الانتحار، أو أنّ رواية La nouvelle héloise (1761 ) لجان جاك روسو غيّرت التوازن العاطفي لأجيال عديدة.
إثبات الذات أو المجابهة مع الذات
عم نبحث إذن في هذه التجربة التي تظهر مقوّضة للاستقرار ؟ و ماذا نخشى ؟ ها هنا نعود إلى التعدّدية الجوهرية للجنس الروائي : كلّ شيء متعلّق بالرواية المنتقاة. حذق أكثر الروايات رواجا ( best _ sellers )، يتمثّل في تقديم شخصيات تشبهنا، قيمها هي قيمنا، رغباتها تخاطبنا لأنّها تحديدا نمطية و مقولبة. هذه الروايات تحمّس القارىء في معتقداته و انتظاراته. هذه إوّالية جدّ معروفة في علم النفس الإجتماعي: فلأنّ الآخر يشبهني، فهو يمنحني الأمان. ها أنذا قد تمّت حمايتي و طمأنتي من قبل شخصية الرواية التي، في المقابل، أتعلّق بها. و على العكس، ثمّة روايات أكثر طموحا تجعلنا نتواجه مع غيرية جذرية، هذا مثالُ الأبله لدوستويفسكي ( 1868 )، و لوليتا لفلادمير نابوكوف ( 1955 )… لا تتأتّى الفائدة عن ما نعرفه عن ذواتنا، و لكن ما هو قابل لأن نعرفه عن الجزء الخفي من حياتنا. في حالة، يبحث القارىء على إثبات الذات؛ في الأخرى، يبحث على المجابهة مع الذات. في كلّ الأحوال، و كما يلاحظ فانسان جوف : ” الآخر النصّي، سواء كان السّارد أو الشخصية، يبعث إلينا، عبر الانعكاس، صورة عنّا “.(6)
طموح هذا الاستقصاء هو إعادة الاعتبار للمقاربات الجديدة للأدب من جانب النظرية الأدبية كما من جانب العلوم الإنسانية. الانتباه إلى القارئ، إلى حوافزه، إلى معيشه ـ و ليس فقط إلى النص الأدبي ـ هو واحد من المظاهر المُحْيية.أن يتمّ الإلحاح على البعد المعرفي، الأخلاقي أو العاطفي للقراءة، فهذا يقطع مع عقيدة بالية. أن تقرأ ليس فقط أن تتحادث مع كبار الكتاب في الماضي و في الحاضر؛ إنّها تجربة فكر. أن تستقبل في ذاتك لغات أخرى، عوالم و أمزجة أخرى، أن تدمج في شخصيتك معارف و عواطف جديدة. أن تمسك برواية هو أن تأخذ موعدا مع ذاتك.
هوامش :
1 _ Guy de Mapassant, Le roman, Pléiade, 1987
2 _Tropismes, n? 11, 2003
3_Barthes, ?uvres complètes, t1,Sueil, 2002
Umberto Eco, In Fabula , Grasset, 1985 4_
5_Vincent Jove, La lecture, Hachette, 1993 
6 Ibid 
المصدر :
Sciences Humaines, N? 218 , Aout_Septembre, 2010
________
*(العلم) المغربي الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *