الكرسي – المِحرَقة


*مصطفى سليمان

منذ الثلاثينات من القرن الماضي بعد الحرب العالمية الأولى نشأ في أوروبا مسرح العبث أو اللامعقول، ليعكس لا معقولية ما حدث من قتل للملايين، ودمار شامل للمدن، بل للعقل والروح، ولمظاهر الحضارة بكل أبعادها. وتمخّضت عن تلك العبثية أعمال فلسفية وأدبية وفنية في مختلف الأجناس الأدبية، والفنون التشكيلية. وكان للمسرح العبثي إسهام بارز في التمرد على هذا العالم اللامعقول. 

كان الفن والأدب صرخة غضب واحتجاج على جنون الحكام السياسيين، والعسكريين، والمنظّرين لفلسفة القوة، ونزعة تدميرية لهؤلاء المجانين العبثيين، بل المختلين عقلياً وأخلاقياً. نزعة تدميرية للذات وللآخرين.
وقد حطّم العبثيون قواعد أرسطو المسرحية؛ فلا زمان ولا مكان ولا حدث متماسكاً ولا عقدة. كان المكان أحياناً مجرد كرسي، كما في مسرحية الكرسي ليوجين يونسكو، وكان الحوار غامضاً غير مترابط، كغموض الحروب العبثية. بل كان الحوار أحياناً صامتاً (!) كما في مسرحية النادل الأخرس، لهارولد بنتر.
وقمة المسرح العبثي كانت مسرحية في انتظار غودو لصموئيل بيكيت. متى يأتي غودو؟ وأين؟ وكيف؟ وهل سيأتي؟… إنه حلم خلاص البشرية من العابثين بمصيرها.
دائماً أفكر في المتصارعين على الكرسي عبر التاريخ. إن قتْلَ قابيل أخيه هابيل كان من أجل أول كرسي مجرد: الأنانية والسيطرة والغيرة والاستحواذ. وتتالت الصراعات بين البشر على الكرسي، العرش، الهولوكوست!
تحضرني الآن عبارة غريبة مثيرة تدعو المرء إلى التوقف عندها مليّاً قبل تبنّيها أو رفضها، وهي للمفكر عبد الله القصيمي في كتابه: العالم ليس عقلاً. «إن الثوار والقادة والدعاة والفنانين قوم من المرضى والمتعَبين يعالجون أمراضهم بتطبيب الآخرين».
وتحضرني نظرية فرويد في تفسير الفن والإبداع من خلال دافع الإرضاءات البديلة. فالفن هنا ممارسة مرضية، يلجأ إليها الفنان كنوع من الإرضاءات البديلة لعجزه عن تحقيق رغباته وميوله في دنيا الواقع، فيشبع رغباته في حلمه الفني. فكأن الفنان في عملية التخيُّل أو التخييل يستنفد رغباته المكبوتة، ويستهلك بذلك طاقاته المرضية التي تظهر في إنجازاته الفنية. فالفن بحسب فرويد تحرير للفنان من آلامه ونزواته المرضية. ألم يجعل (غوتيه) بطله (فرتر) ينتحر، لأنه هو نفسه كان تحت وطأة الانتحار؟ 
عد الآن إلى عبارة القصيمي وانظر كيف جمع، مِن بين مَن جمع، القادة والدعاة مع الفنانين.
فهل القادة والزعماء والثوار عبر التاريخ مثل الفنانين قوم من المرضى والمتعَبين يعالجون أمراضهم بتطبيب الآخرين؟ الفنان يحترق بجمر الإبداع وهو راض مبتهج. لكن ما سر احتراق القادة والزعماء على الكرسي، العرش؟ إن كرسي السلطة هولوكوست يحرق الجالس عليه. تُضرَم النار فيهما معاً لكنه يظن أنها ستكون عليه برداً وسلاماً كأنه نبي يتمتّع بالعجزات.
ترى هل محرقة الكرسي نوع من الإرضاء البديل للقادة والزعماء والثوار للتحرر من آلام ونزوات ورغبات مكبوتة؟ أم الكرسي حلم ووسيلة هؤلاء لتغيير واقع البؤس في حياة البشر. لكنْ لماذا حين تحين الساعة للترجُّل عن الكرسي المِحرقة يفضلون الاحتراق حتى الرماد ولا يغادرون العرش؟ هل هي الكبرياء الوطنية؟ الشجاعة الفردية؟ الإحساس بعظمة المسؤولية؟ الشعور بالتلاشي واللاشيئية حين يغادرون الكرسي؟ لماذا هناك قادة يرفسون الكرسي بأرجلهم ليعيشوا أحراراً من العبودية الكرسية، وآخرون يحترقون ولا يغادرون؟
إدوارد الثامن الملك الإنكليزي، تنازل عن عبودية الكرسي، واختار عشيقته الأميركية واليس سمبسون ليتربع معها حراً- على عرش الحب الخالد. فمن أين نأتي بعشيقات لهؤلاء ينقذنهم من الكرسي- المِحرقة؟
__________
*كاتب سوري(الراي)

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *