بالتوافق.. والسلام


*إبراهيم صموئيل

ها مصرُ تقدّم درسَها! درساً بليغاً لا يقبل القسمة، ولا يحتاج إلى شرح وتفسير. لا ضرورة للتجاذب والتنازع حوله لأنه يقدّم حلاً شاملاً يصعب القيام بشدّ البساط إلى اتجاه معين: حل التوافق.

من بين مئات المصطلحات والمفردات التي كان يُظن أن فيها البلسم الشافي سنجد التوافق يتصدرها ويحسمها ويرسم الطريق: لا أحمر، ولا أسود، ولا أصفر، ولا أزرق. لا علماني ولا ديني، لا رأسمالي ولا اشتراكي… بل الأرض الخضراء الجامعة. إذ من شأن اللون الواحد قولبة الناس متعددي الألوان والأطياف والاتجاهات والرؤى والانتماءات، قولبتهم في قالب بعينه يلغي التنوع والتعدّد. مصر للجميع. وهو ليس اكتشافاً، ليس اختراعاً، ليس تركيباً عجائبياً يجب أن نجهد للحصول على قوامه الملفق. بالطبع والبداهة أن تكون البلاد ـ أي بلاد في الدنيا ـ لجميع أبنائها. السليقة تقول هذا، والعفوية تقول هذا، والمنطق يقول هذا.
الشاذّ، الغريب، المفتعل، أن يكون الأمر غير ذلك! بالطبع مصر للجميع. مَنْ المفرد: اتجاهاً، أو معتقداً، أو ايديولوجية، أو حزباً يمكن له أن يقول: لا! مصر لي؟! في الاختطاف تصبح البلاد لمختطفها. في الاستعمار تصبح لمستعمرها. في الاغتصاب تصبح السلطة لمغتصبها. في الثورة، الشعبية منها على وجه الخصوص، تكون البلاد للجميع.
مصر لشعبها. هل من تعبير أكثر إيجازاً، وأفصح تعبيراً، وأشدّ واقعية من هذا؟ لو كانت مصر لبعض شعبها، لفئة منه، أو لون، أو اتجاه، أو مذهب… لما احتاجت إلى ثورة، إذ انها لو كانت كذلك فلِمَ تثور لتعود إلى ما كانت عليه!؟ إذا كان الاستئثار هو الغاية من الثورة، فلِمَ ثارت مصر؟! 
أبلغ من هذا وأفصح في الدرس الذي قدّمه الشعب هو أنه قال: ولا لدورة رئاسية واحدة، ومن ثم بعد سنوات انتهاء الدورة نقوم بانتخاب رئيس جديد من لون أو مذهب أو اتجاه جديد، وبذا نغيّر اللون بين دورة انتخاب وأخرى! في 25يناير ثارت مصر ونجحت، ثم في 30يونيو خرج الشعب بأكثر عدداً مما خرج في الثورة الأولى، وأشدّ عزيمة وإصراراً ليقول: لا! ولا لدورة واحدة!
المثيرون للضحك حقاً أولئك الذين قالوا: ولِمَ لم ينتظر الشعب حتى يُنهي مرسي فترة رئاسته ثم ينتخبون من شاؤوا؟ أليست هذه هي الديموقراطية؟
في ثورة الشعب الثانية تبدّى الجواب بوضوح: لا! لم نثر ليحكمنا لون حتى إذا ما وجدنا أنه غير صالح للبلاد جربنا انتخاب لون آخر! ثار الشعب المصري ـ وهنا عبقرية ثورته والدرس العظيم الذي قدّمه ـ لتكون البلاد لجميع أبنائها. لجميعهم من المرة الأولى، وليس عبر تجريب يعاود الاستئثار بعد الاستئثار. ما أضنى الشعب المصري ـ والشعوب العربية ـ وأنهكها وجوّعها واستبدّ بها: الاستئثار! وحين هبّ الشعب المصري لخلع الاستئثار فإنما فعل ليعيد البلاد إلى أهلها، إليهم جميعاً دون استثناء، وهو ما قاله ويقوله شباب «حركة تمرد» باللسان العربي الفصيح.
والبداهة تقول: إن الخارج من مرض مزمن دام لعقود وعقود ليس له أن يقبل بعودة المرض ذاته ولو لساعة، فكيف لسنوات!؟ صبر الشعب المصري عاماً على حكم الإخوان ثم نهض من جديد. نهض حين لمس أن مرض الاستئثار يعود إليه ولكن بلبوس جديد. لم يخرق الشرعية قطّ. فالشرعية، والمنطق، والعقل السليم، وقبل ذلك وبعده، إرادة الشعب: مصر لنا جميعاً. ليست لك وحدك، ولا لي وحدي، ولا له وحده… لنا جميعاً، بالتوافق، والتعاون والتشاور والعدل والمواطنة… والسلام.
_______
* روائي من سوريا 
(الراي) الكويتية

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *