علي السوداني *
( ثقافات )
كان الخطُّ واضحاً ومهلهِلاً . إشارة المرور ما زالت حمراء . سائق التاكسي ليس من صنف الثرثارين المنفّرين . ثمة عطر طيّب ببطن السيارة . أمامي باصٌ أسود يقف على مهابة لافتة . هو باص نقل الموتى . ألسائق الجميل ، خندريسٌ لم يفتح فمه حتى اللحظة . جوّ التاكسي الأصفر ، باردٌ ومعطّرٌ ومنعشٌ . أنا أحبُّ هذا . روحي مرتاحة ومطمئنة وهادئة . سائق التاكسي لطيف . هو لا يشبه السائق النابت على يمينه . سائق باص نقل الموتى ، منشغل بتثليم أظافره بوساطة أسنانه القواطع . موجة حارّة تضرب المدينة . ثمة رطوبة عالية . دبقٌ فوق ياقات الناس ، مثل دبق البصرة . عجوز عرجاء تعبر الشارع . ألعجوز البيضاء لم تكتفِ بعَرَجها المبين ، بل ثمة طفل غضٌّ يتسحسل خلفها . وجه العجوز موجع . الإشارة حمراء حتى الآن . ألطفل المصبوغ بشمس الظهيرة ، شالَ بيده مصّاصة سكّر حمراء – مثل شارة مرور – ربما التفّتْ خصلة طائشة من شعر الولد ، حول عود المصّاصة . تمنيت لو كانت تلك العجوز المبروكة ، شحّاذة تشحذ . كان بمقدوري اليوم أن أزرع في كفّها ، ليرةً صامتة . قد تكون ، شحّاذة سائرة وخشمها العاتي في السماء . أحسبها عزيزة قومٍ ذلّتْ . ليس بمستطاعي التيقّن من المسألة . أعمدة الكهرباء ملطّخة بإعلانات لا عظيم رابط بينها . حدّثني مرةً ، المعلّم معاذ الآلوسي ، من رعية الرافدين ، عن مسألة التلوّث البَصَري . لم أتمعمع كثيراً بالمصطلح . لمعاذ شطحات صوفية مذهلة . وجه سائق التاكسي الأصفر ، أرحم من وجه سائق باص الموتى . إشارة المرور ، حارنة على الأحمر . أنا مرتاح ومسترخٍ . ثمة بائع ورد مزروع في الجزرة الشائخة . أنا أحبّ الورد ، وكتبت غير مرة عن وردة اسمها الزنبقة السوداء – لون سيارة الموتى- ألحقّ هو أنني لا أقدر على التفريق بينها وبين وردة الجوري . ثمة القرنفل أيضاً ، والياسمين . ألياسمين يذكّرني بحانة الياسمين ، ووجهِ عبد الوهاب البياتي المنير المنوّر . ألإشارة حمراء وهاتفي يرنُّ . رنين الهاتف يثلم من جرف الطمأنينة . ألعجوز التي تسحل بأذيالها طفلاً أسمرَ ، كانت كما أخبرني قلبي . وجه البومة ما زال يدرم إظفر السبّابة . بائع الورد يجوّد طقطوقة مصرية حلوة . المشهد مكتظٌ . ظهر اللحظة ، بائع مناديل ورقية ، شكلها الملفوف ، يزرعها بباب مرحاض . بائع المناديل طويل وعريض ، وينادي على بضاعته بقوة . فوق ظهره خريطة عَرَقٍ مملّح . ألبائع الشاطر يصف بضاعته على أنها بسعر التراب . ألرئيس يصيح بالرعية ، أن لا تفريط بذرة من تراب البلاد . كلاوات قوية . بائع المناديل أحسن من الرئيس . ثمة إضافة مباغتة نزلتْ فوق المشهد . رجلٌ شائبٌ ضئيل ، شال على زنديه المضمرين ، سلّات تين ناضج . تين الإشارات ، أرخص من تين المولات . أنا أحب التين ، وأصدّق شائعة أنّ البلابل تنزل عصراً فوق شجرة تينٍ عملاقة ، فتنقرُ كمشة تيناتْ ، وترجع إليها في العصرية التالية ، فتشرب منها ما تخمّر ، فتسكر وتغنّي . ألشحّاذة راسخة وقائمة . لحسين علي يونس ، من أغضاض صعاليك بغداد العباسية ، قصيدة رائعة عند هذه العتبة . عندي رغبة ضخمة في معاونة الشحّاذة . سائق التاكسي لذيذ وعذب . لم ينبسْ ببنت شفة . ألجملة الفائتة جملة تافهة ، مثل جملة وعثاء سفر . إشارة السير حمراء كما هيَ . قلقٌ بثقل جبل يأكلني . ألسائق طيّب ، لكنه لا يملك شرائط سعدي الحلي . سوق الإشارة تشتعل . بائع الورد ، ذبل وردهُ . تين الزنود تعتّقَ وتخمّر . واحدٌ ينادي على جريدة مكسورة . ألعجوز حبيبتي ، مسوّرة بوجه الطفل الأسمر . إشارة المرور حمراء . ألولد الصغير قتلني . أنا مرتاح . أنا سعيد . لا رادَّ لفرحي الشاسع . في داري زوجٌ من طير الكناري ، يغنّين معي ويتناوحنَ . ألمنظر جميل . ألحياة بديعة . شرطيّ يغنّي في الكابينة . ألسائق ساكت . عندي رغبة كاسرة في البكاء . انا على ما يُرام . ألله كريم .
* أديب من العراق يعيش في الاردن