ألبير كامو.. مرجعيات بائسة إلا جيرمان



*د. محمد مخلوف

ألبير كامو من مواليد الجزائر عام 1913. ومن عشّاق شمسها وطبيعتها وأحيائها الشعبية. من منبت اجتماعي متواضع وأصبح أحد أشهر أدباء ومفكري وفلاسفة القرن العشرين. إنه كاتب وفيلسوف وروائي ومسرحي وشاعر وصحافي ولاعب كرة قدم في بداياته.

وهو صاحب رؤية جعلته يتفرد بسمات متنوعة، ميزته عن نظرائه. إذ قال مرة يصف رؤاه وانطباعاته حول العوز والبؤس اللذين اختبرهما: “منعني البؤس من الاعتقاد أن كل شيء جيد تحت الشمس. وفي التاريخ؛ والشمس علّمتني أن التاريخ ليس كل شيء”.
لم يعرف البير كامو أباه العامل الزراعي، الذي كان قد شارك في الحرب العالمية الأولى، وأصيب فيها بجرح قاتل، إذ توفي وهو في الثامنة والعشرين من العمر، إلاّ من خلال صورة واحدة. وكانت والدته كاترين سينتس، ذات الأصل الأسباني، تعاني من صمم جزئي.
ولم تكن تعرف القراءة والكتابة، وكانت قد أقامت مع طفليها عند والدتها، قبل ذهاب زوجها إلى الحرب. وعن تلك الأم في تلك المرحلة، يكتب البير كامو لاحقاً: “كانت هناك امرأة دفعها موت زوجها إلى أحضان الفقر. هكذا عاشت عند أمّها الفقيرة هي الأخرى ومع أخ معاق .اضطرّت للعمل من أجل تأمين سبل العيش وتركت لأمّها مهمة تربية طفليها. كانت تلك الأم قاسية وصلفة وتحب السيطرة”.
“النزعة الفوضوية”
عاش البير كامو فترة طويلة عند عمّه، وتأثر كثيراً بأفكاره المستلهمة من فولتير وتوجهاته ذات “النزعة الفوضوية”. كان يعمل جزّاراً، لكنه كان يتمتع بقدر مهم من الثقافة.
استطاع الفتى البير أن يؤمّن ما يسمح له بتأمين الضروري من أجل العيش، كما وفّر له مكتبة تحتوي على كمية لا بأس بها من الكتب. هكذا ترعرع البير كامو في الجزائر ونال منها الشهادة الثانوية عام 1932، ليتوجّه بعد ذلك نحو دراسة الفلسفة، فتبدأ رحلته الفكرية والأدبية، التي جعلت منه ما أصبح البير كامو “الكبير”.
ما يلفت الانتباه، أن البير كامو لم يتوقف طيلة حياته عن ذكر معلّم المدرسة الابتدائية في الجزائر عام 1923: لويس جيرمان، الذي تنبّه للإمكانات الذهنية المتميّزة للطفل البير، فقرر أن يوليه اهتمامه ويخصّه ببعض الدروس خارج الدوام المدرسي.
بل كان هو الذي أقنع أسرة الطفل تقديم التلميذ الصغير لمسابقة نيل منحة دراسية. وذلك ما حصل، إذ أتيحت لابن الأسرة الفقيرة فرصة أن يكمّل تعليمه في إحدى المدارس الثانوية في مدينة الجزائر. كانت تلك الفرصة الباب الذي ولج من خلاله طريق العلم والمعرفة.
وربما ما كان له من دونه سوى أن يكتفي بممارسة مهنة صغيرة، أو يصبح لاعب كرة قدم: هوايته المفضّلة في سنوات شبابه الأولى. تجدر الإشارة إلى أن البير كامو وأثناء الكلمة التي ألقاها عام 1957، في مناسبة حصوله على جائزة نوبل للأدب، لم يتردد في “إهدائها” لمعلّم المدرسة الابتدائية لويس جيرمان، الذي استطاع بفضله، كما قال، أن يتابع دراسته.
تلقّى البير كامو تربيته من أمّه البسيطة، التي مارست الخدمة في المنازل، خاصّة من قبل جدّته المتسلّطة، ومن عمّ جزّار يبيع اللحم في الجزائر العاصمة، وقارئ جيّد بالوقت نفسه للروائي أندريه جيد. وإلى جانب هذه “المرجعيات” التربوية، عرف البير كامو البؤس الذي كان يحيط فيه ضمن حي “بلكور” الشعبي في العاصمة الجزائرية. وحادث آخر في حياته، دفعه إلى طرح العديد من الأسئلة عن معنى وجود الإنسان ومعنى وجوده كشخص.
ذلك الحادث كان إصابته بمرض السل خلال تحضيره لشهادة الدراسة الثانوية. إذ أحس بذلك المرض بمثابة تهديد لحياته، ما دفعه للتعلّق أكثر بها وامتلاكه حس المقاومة، رغم ما تفصح عنه من “عبث”. مثل هذا الإحساس لن يكون بعيداً عن تبنيّه لاحقاً، مشرباً فلسفياً ارتبط باسمه: “فيلسوف العبث”.
صلة مع الواقع
وفي نهاية مرحلة الدراسة الثانوية في الجزائر، التقى البير كامو بالأستاذ والفيلسوف جان غرونييه، الذي كان له أثر كبير في تكوينه الفلسفي. ومنذ تلك الفترة بما تخللها من تساؤلات عن معنى الوجود وما عرفته من تلمّس سبل المعرفة، بدأ البير كامو بالكتابة ونشرت له مجلة “سود”، أي ما يعني “الجنوب” بعض الكتابات. وفي تلك الفترة أيضاً انتسب كامو إلى الحزب الشيوعي الجزائري الذي تخلّى عنه لاحقاً، ووجه نقداً عنيفاً للفكر وللممارسة الستالينيين. وجعل كامو من تلك القطيعة مناسبة لإعادة النظر في الكثير من قناعاته وتأييده مطالب الجزائريين.
في نهاية سنوات الثلاثينات من القرن العشرين، اكتسب البير كامو حضوراً فكرياً مهماً في المشهد الثقافي الفرنسي. لكنه حرص بالوقت نفسه، على أن يوطّد صلته بالواقع، وأن يمارس عملاً نضالياً ملموساً، وليس الاكتفاء بما هو نظري. ووجد في الصحافة السبيل الأفضل والأكثر قدرة على تجسيد ما يصبو إليه. هكذا ساهم مع باسكال بيا في تأسيس صحيفة “الجزائر الجمهورية”.
أعلن كامو في تلك الصحيفة الكثير من المواقف التي رأى فيها أغلبية المثقفين والسياسيين الفرنسيين نوعاً من “الفضيحة” من زاوية مناهضته الصريحة لمختلف أشكال القمع والاضطهاد الاستعماري في الجزائر. ومع نشوب الحرب العالمية الثانية، عاد كامو إلى فرنسا ليتابع عمله الصحافي في إطار صحيفة “باريس المساء ـ باري سوار”، التي تولّى منصب “سكرتير التحرير فيها”..
ولم يتأخر في الالتحاق بالمقاومة ضد الاحتلال النازي. وكان أحد الناشطين في شبكة المقاومين ضمن إطار مجلّة “المعركة ـ كومبا”. وتولّى مهمات تتعلّق بجمع المعلومات بالإضافة إلى الإدارة الفعلية لتلك المطبوعة “السريّة” حتى عام 1947. تجدر الإشارة أن البير كامو قد نشر مجمل كتاباته في الصحف والمجلات من “كومبا” حتى “الاكسبريس” في أجزاء عدّة حملت عنوان “مسائل راهنة”.
خلاف وتهمة
كان البير كامو قد تعرّف على الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارت في عام 1943. وقامت بين الرجلين صداقة عميقة قبل القطيعة بينهما عندما صدر كتاب “الإنسان المتمرّد” للأول، عام 1951.
وأثارت تلك الدراسة الكثير من التعليقات والجدل، خاصّة في أوساط المثقفين اليساريين في فرنسا. وترتب على ذلك إعلان كامو قطيعة كاملة مع اليسار الشيوعي، ومع صديقه سارتر ومجلّته التي أسسها خلال الحرب العالمية الثانية. وأسهم كامو بالكتابة فيها: “الأزمنة الحديثة”. وجّه جان بول سارتر آنذاك إلى كامو، تهمة العداء للشيوعية، وخضوعه للقيم البورجوازية.
وكان انطلاق ثورة تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي وما يعبّر عنه الفرنسيون بـ “حرب الجزائر” بمثابة “مأساة شخصيّة” بالنسبة لكامو. ووجد ذلك صداه في روايته “السقوط” الصادرة في عام 1956، أي في عام انطلاق الثورة الجزائرية التي انتهت باستقلال البلاد عام 1962، بعد 132 سنة من الاحتلال الفرنسي.
والرواية مستلهمة بوضوح من أجواء القلق وسوء الفهم، التي طبعت سلوكية “الإنسان الحديث”. من مؤلفاته: في الرواية: الموت السعيد، السقطة. وفي المسرح: كاليغولا. وفي الدراسات: الأعراس، أسطورة سيزيف.
وفي عام 1957، نال البير كامو جائزة نوبل للأدب: “على مجمل أعماله التي ألقت الضوء، بكثير من الجدّية والعمق على المشكلات المطروحة في عصرنا على ضمير البشر”، كما جاء في قرار لجنة منح الجائزة.
فراق
يتم تصنيف البير كامو عامّة، أنه من الفلاسفة الوجوديين، مثل جان بول سارتر . لكنهما افترقا جذرياً حول مفهوم الحريّة التي رآها سارتر في “الالتزام”، بينما وجدها هو في مفهوم “العبث”. لكن إذا كان “العبث” الكاموي يقوم بالدرجة الأولى، على عدم فهم العالم وبقاء الكثير من الأسئلة معلّقة من دون إجابات، فإنه يؤكّد على حب الحياة. ويرفض فكرة الانتحار.
ويطالب في قبول جميع التحديات والتأكيد في كافة الحالات، على قيمة الحريّة. وفي تاريخ الرابع من يناير عام 1960، توفي فيلسوف العبث بحادث سير “عبثي”، عندما ارتطمت السيارة التي كان يقودها بشجرة على حافة الطريق. وكان عمره حينها، 48 عاماً.
«أعراس».. الحب مجد بلا حدود
كانت اهتمامات البير كامو الأدبية قد ظهرت أوّلاً على صعيد المسرح، حيث أسس خلال فترة 1936 ـ 1939، فرقة مسرحية أطلق عليها أوّلاً اسم “مسرح العمل”. ثم استبدله بدافع الابتعاد عن الاستراتيجية الإيديولوجية للحزب الشيوعي، بتسمية “مسرح الفريق”، توخياً لقدر أكبر من الحريّة في العمل الفنّي.
لكن في الحالتين، كان القصد جعل الأعمال المسرحية الكبرى، في متناول المشاهدين من أبناء الطبقات الفقيرة. ومارس كامو، في إطار نشاطه المسرحي، التمثيل والإخراج وكتب السيناريو. وقدّم مسرحه أعمالاً عديدة، من بينها: “زمن الاحتقار” لأندريه مالرو، “عودة الابن الضال” لأندريه جيد، “الأخوة كارامازوف” لدوستوفسكي.
وخلال السنوات الأخيرة من ثلاثينات القرن الماضي، قدّم البير كامو، الكثير من الكتابات المتنوعة، من حيث مشاربها ومواضيعها. ولكنها احتوت على مختلف المواضيع الأساسية التي سيتطرّق إليها الكاتب لاحقاً، مثل: الموت والشمس والبحر المتوسط والعزلة. ومصير البشر واليأس والسعادة والعبث…
وخلال تلك السنوات، عمل كامو على عدد من المشاريع الأدبية التي رأت النور لاحقاً، ومن بينها رواية “الموت السعيد” التي لم تنشر حتى عام 1971، أي بعد أكثر من عقد على وفاة مؤلفها. ولم تلق نجاحاً كبيراً. وكانت الدراسات الأولى لكامو التي جمعها تحت عنوان “الأعراس” قد عرفت طريقها إلى النشر عام 1939.
وتطرّقت لمواضيع اهتمام مؤلفها، مع التأكيد على إبراز الإطار الذي ضمّها، والمتمثّل في المشهد المتوسطي المشبّع بالشمس والبحر والباعث على السعادة. بدا ذلك العمل بمثابة دعوة لـ “تمجيد الحب دون حدود”.
يبقى العمل الذي كرّس البير كامو كأحد كبار كتّاب القرن، رواية “الغريب” التي نشرت عام 1942. هذه الرواية احتلّت المرتبة الأولى بين أكثر الأعمال الروائية على صعيد المبيعات والقراءة، بعد الحرب العالمية الثانية. و”الغريب” الذي يرسم كامو صورته في هذه الرواية كان غريباً عن “أخلاقيات” مجتمعه كما بدا في سلوكية الشخصية الرئيسية “انطوان ميرسو”، الذي لم يحترم التقاليد عندما مارس التدخين أمام نعش والدته وذهب بعد وفاتها مباشرة لحضور فيلم سينمائي برفقة صديقته “ماري كاردونا”.
وفي الفترة نفسها، التي شهدت صدور رواية “الغريب” صدر لألبير كامو دراسة تحت عنوان “أسطورة سيزيف” والتي عرض فيها الأسس الجوهرية لفلسفته وتلا ذلك صدور عمل مسرحي هو “كاليغولا”. الأعمال الثلاثة وصفها كامو نفسه، أنها تنتمي إلى “دائرة العبث”. ويحدد كامو دائرة أخرى هي “دائرة التمرّد”. وتضم “الطاعون” و”حالة حصار” و” الإنسان المتمرّد”. وتلك الأعمال رسّخت مكانة الكاتب كأحد أهم المبدعين الفرنسيين وأحد الوجوه الأدبية والفكرية ذات الشهرة العالمية.
وفي مثل ذلك السياق صدرت رواية “الطاعون” التي عرفت فور صدورها، نجاحاً كبيراً لدى جمهور القرّاء. ونالت “جائزة النقّاد” في فرنسا. وتواكب صدور تلك الأعمال الكبرى مع اتخاذ كامو لمواقف عامّة تفرّد فيها.
_______
*(البيان)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *