التجربة الغربية في مواجهة التجربة الأفريقية


*محمد علي صالح

أصدرت الأميركية النيجيرية شيماماندا أديشي كتابا خليطا من رواية وواقع. وصورت فيه قصة شبه واقعية عن نيجيري ونيجيرية، «إيفيميلو» و«أوبنزي». تربيا في نيجيريا، ودرسا حتى المرحلة الثانوية، وكانا حبيبين. ثم افترقا في المرحلة الجامعية: سافر «أوبنزي» إلى بريطانيا، وسافرت «إيفيميلو» إلى الولايات المتحدة.

اغتربا رغم أن الاثنين كانا يعيشان حياة مستقرة ورخية. وكان كل واحد منهما ينتمي إلى عائلة شبه أرستقراطية. لكنهما هاجرا، كما قال الكتاب «هروبا من عدم القدرة على الاختيار، وعدم القدرة القاسي والمعذب، صباحا ومساء». وقررا أن يغتربا في الغرب، ليس فقط للدراسة (لم تكن لهما طموحات أكاديمية حقيقية)، ولا للعيش (كانا يعيشان في راحة وتميز في نيجيريا)، ولكن لدراسة الغرب والغربيين. ثم العودة إلى نيجيريا. ومقارنة تجربة بريطانيا بتجربة أميركا. ثم مقارنة التجربة الغربية كلها بالتجربة الأفريقية. كان هذه هي خطتهما. لكن، مثل كثير من الخطط، لم تتحقق تماما.
أولا، رغم ثرائه وعائلته شبه الأرستقراطية، وجد «أوبنزي» نفسه في لندن ليس إلا أجنبيا، وفي هذه الحالة أجنبيا أسود. وبسبب خطأ فني في أوراق السفر التي قدمها، وفي أوراق أخرى وقع عليها في بريطانيا، رفض البريطانيون منحه الإقامة. لكنه قرر أن يعيش، وأن يواصل تنفيذ الخطة المشتركة مع «إيفيميلو». غير أنه واجه مشكلتين:
أولا: فردية وبرود بريطانيين يصلان حد التجاهل. «وكأنه ليس موجودا بوصفه إنسانا»، وهو الذي تعود على علاقات عائلية واجتماعية قوية.
ثانيا: جدية في الحكومة البريطانية لا تشبه الفوضى الحكومية في نيجيريا. وجاءت الجدية في صورة مراجعة مسؤولي الهجرة لأوراقه، والبحث عنه، والعثور عليه، والقبض عليه، ونقله، بين يوم وليلة، من لندن إلى لاغوس.
هذا ما كان عن «أوبنزي». أما «إيفيميلو» فقد التحقت بجامعة في ولاية بنسلفانيا. وبدا لها أنها ستكون أحسن حظا من عشيقها النيجيري.
تعمدت أن «تتأمرك إلى أقصى درجات الأمركة». والتحقت بجامعة برنستون (ولاية نيوجيرسي). وصارت عشيقة لأستاذ أميركي أسود في الجامعة: «بلين». وأسست صفحة في الإنترنت عن حياتها، وخصوصا عن العلاقة بين البيض والسود، وخصوصا عن تجربتها هي.
كانت تكتب بصراحة. مثل عنوان الموقع: «ملاحظات حول الأميركيين السود، الذين كانوا يسمون (الزنوج)، ولا يزال بعض البيض يسمونهم (الزنوج)، بقلم أفريقية ليست أميركية».
واعترفت بان تجربة الأميركيين السود مع البيض ليست مثل تجربة الأفريقيين مع البيض: هنا كانوا عبيدا يبيعونهم ويشترونهم. وهناك كانوا يعيشون في أوطانهم تحت احتلال أجنبي. هنا، انتهى الرقيق، لكن لم تنته آثاره. وهناك انتهى الاحتلال الأجنبي، وعاد الأفارقة أحرارا كما كانوا قبل أن يستعمرهم الغربيون.
غير أن الكتاب يركز على «إيفيميلو» أكثر من تركيزه على سود أميركا. يركز على حالتها النفسية وهي «تتأمرك إلى أقصى درجات الأمركة». إيفيميلو مرت بثلاث مراحل:
أولا: في نيجيريا، حيث كانت تعاني من «إنفيريوريتي كومبلكس» (عقدة النقص) نحو الرجل الأبيض (والمرأة البيضاء)، رمز الحضارة الغربية المتطورة، وأيضا، حكام الأفارقة.
ثانيا: في أميركا، صارت تعاني من صدمة حضارية بسبب الاختلاف الجذري في الحضارة، والثقافة، واللغة، والعادات.
ثالثا: في أميركا، صارت «الأمركة» عملية اختبار نفسية صعبة جدا. وقضت سنوات تحاول البحث عن هويتها الحقيقية.
وهي تطرح دائما السؤال التالي: «لماذا ينادونني «سوداء» في أميركا، وأنا لم أكن سوداء في وطني؟» وكتبت عن مناقشات حادة، وأحيانا ساخنة جدا (وأحيانا فيها شتائم مباشرة) مع عشيقها أستاذ الجامعة الأميركي الأسود، الذي قال لها مرة: «أنت لا تعرفين ما في داخلنا لأنك لا تعانين مثلما نعاني، ومثلما عانى آباؤنا وأجدادنا». وقال لها أيضا: «أنت وأنا مثالان حقيقيان للفرق بين الأفريقي والأميركي الأفريقي».
بالإضافة إلى مشكلتها مع الأميركيين السود، عانت من الأميركيين البيض، وخصوصا الأميركيات. إن لم تكن معاناة مباشرة، فقد كانت معاناة نفسية: «لماذا البيضاء باسمة وعادية، وأنا كأني أريد أن أهرب من الدنيا؟» و«لماذا يهفهف شعرها مع الرياح وشعري ثابت على رأسي؟» واضطرت لأن تلين شعرها بمكواة كهربائية لتقدر على أن تسرحه إلى الوراء، ولو أنه قصير. وأحست أن هذا يساعدها عندما تتقدم لوظيفة، وعندما تخالط البيض. وبعد سنوات، قررت أن تعود إلى نيجيريا. لهذا، يمكن القول إن مشكلتها لم تكن فقط الصراع مع الحضارة الغربية، ولكن، أيضا مع «الحضارة الأفريقية». عندما قالت للأميركية السوداء التي كانت تسرح شعرها أنها ستعود إلى نيجيريا، سألتها في استغراب واضح: «كيف يترك شخص الحضارة الأميركية، ويعود إلى العالم الثالث؟» ثم عندما عادت إلى نيجيريا، واجهت مشكلة مع «نيجربوليتان» (نيجيريين درسوا أو عاشوا في الغرب، ثم عادوا إلى نيجيريا). وجدت أن لا هم لهم غير أن يأكلوا همبرغر وبيتزا، ويشربوا كوكا كولا وبيبسي كولا، ويتنزهون ويمرحون. وسألت نفسها: «إذا كنت أريد أن أعيش كما يعيش الأميركيون، لماذا لم أبق في أميركا؟» وعندما قابلت حبيبها الأول «أوبنزي»، وبعد مناقشات بالليل والنهار، اتفقا على أن الأجنبي في الغرب «هامشي». وأن الأجنبي الأسود «هامشي جدا».
لكن، الأفريقي المتأمرك في أفريقيا ربما لا يقل استعلاء عن الأبيض في بلاد البيض. ولهذا، ربما «عدم القدرة على الاختيار» ليست سيئة كما اعتقدا وهما في المرحلة الثانوية.
_______
*(الشرق الأوسط)

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *