*أوغستو مونتيروسّو / ترجمة: محمّد محمّد الخطّابي
(ثقافات)
بمناسبة صدور كتاب ” الأعمال الكاملة وقصص أخرى” للكاتب الغواتيمالي أوغستو مونتيروسّو، ترجمة الفلسطينية نهى أبو عرقوب ، مؤخّرا عن مشروع كلمة التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، نقدّم له هذه القصّة القصيرة .
_____
_____
بعد دقائق سوف تحتلّ مكانها فى هدوء أمام البيانو. ستستقبل الضجيج التكريمي للجمهور بانحناءة خفيفة.
فستانها الذي تملؤه خرزات برّاقة يشعّ كما لو كان يردّ انعكاس الضوء عليه. التصفيق الحادّ والسّريع لمائة وسبعة عشر من الحاضرين الذين يملؤون هذه القاعة التي أعدّت خصّيصا لهذا الحفل لن يتوقّف.
أصدقائي سوف يعجبون أو لا يعجبون- لا يمكنني أن أعرف ذلك أبدا – بمحاولات إبنتي فى عزف أرقّ الألحان وأعذب الموسيقى فى العالم حسب إعتقادي ، نعم أعتقد ذلك ولكنّني لست واثقا . باخ ، موتسارت، بتهوفن، لقد تعوّدت أن أسمع أنهم موسيقيون لا يمكن تجاوزهم، ولقد أمكنني تخيّل ذلك. والواقع هم كذلك،إنني أحاول ألاّ أقع فى هذه الحيرة، إذ أنني عندما أخلو بنفسي فإنني على يقين أنهم لا يروقونني، وأعتقد أنّ الجميع يشعر بحماستي الزائفة.
إنني لم أكن قطّ من عشّاق الفنّ، وإن لم يقدّر لإبنتي أن تصبح عازفة بيانو فإنني لن أشعر بهذا الإشكال.إلاّ أنني والدها وإنني أعرف واجبي نحوها.وعليه فلابدّ لي أن أستمع إلى عزفها.وعليّ أن أبدي إعجابي بها وبفنّها،إنني رجل أعمال ولا أشعر بسعادة مثل التي أشعر بها عندما أحرّك دواليب المال والتجارة. أكرّر أنا لست فنّانا. لو كان هناك فنّ من شأنه أن يساهم فى جمع المال وتراكمه والسّيطرة على السّوق العالمية ، وسحق المنافسين فإنني سأكون أوّل من يناصر هذا الفنّ ويتحمّس له.
الموسيقى جميلة،هذا صحيح،ولكنني أجهل إذا ما كان فى مقدور إبنتي حقّا أن تجسّم هذا الجمال.إنّها نفسها تشكّ فى ذلك.إذ غير ما مرّة ، بعد كلّ حفل موسيقي ،كنت أراها تنخرط فى البكاءعلى الرّغم من التصفيق.
من جانب آخر ، إذا صفّق أحدهم بدون حماسة فإنّ إبنتي تجد فى نفسها صلاحية مناقشة ذلك بين الحضور.ويكفي هذا لكي تجعلني أعاني ،ومن ثمّ تبعث على كراهيتي لها بشراسة بعد ذلك. إلاّ أنه من النادر أن يجرؤ أحد على مفاتحتها أو مناقشتها فقد تعلّم أصدقائي من تلقاء أنفسهم أنّ برودة التصفيق أمر خطير قد يجلب لهم المتاعب، بل إنّه قد يؤدّي إلى الإفلاس،وإذا هي لم تقم بإشارة تفيد مطالبتهم بالكفّ عن التصفيق فإنهم يستمرّون فى التصفيق طوال الليل مخافة أن يشعر أحدهم أنه هو الأوّل الذي توقّف عن التصفيق ، ويراقبون يديّ خائفين متوجّسين من أن يسبقوني بالدخول فى الصّمت،فى البداية كانوا يخدعونني ،وكنت أعتقد أنهم فعلا منفعلون ومعجبون ، ولم يمرّ الزمن عبثا إذ سرعان ما إنتهى بي الأمر إلى معرفة الحقيقة.
إستبدّت بي كراهية متصاعدة، إلاّ أنني أنا أيضا مصطنع وزائف لأنني أصفّق أنا الآخر عن غير إقتناع.
أنا لست فنّانا . الموسيقى جميلة ورقيقة إلاّ أنها فى العمق لا تهمّني أن تكون كذلك. ثمّ إنها تبعث فى نفسي الملل.
أصدقائي ليسوا فنّانين ، هم الآخرون، يروقني أن أنكّل بهم، إلاّ أنّ أمرهم لا يشغلني. الآخرون هم الذين يجرحونني . هؤلاء الذين يأخذون مقاعدهم فى الصفوف الأمامية وفي كلّ حين يسجّلون أو يتظاهرون إنهم يسجّلون شيئا فى دفاترهم الصغيرة،إنهم يحصلون على دعوات مجّانية تكتبها إبنتي بنفسها بعناية وتبعثها لهم مع ساع خاص.
إنّني أبغضهم كذلك ،إنّهم الصّحافيون ،وهم يخشونني ،إذ فى إستطاعتي أن أسكتهم متى شئت، فى حين أنّ سلاطة ألسنتهم وخاصّة إثنين أو ثلاثة منهم ليس لها حدود. وقد تجرّأ بعضهم فى مناسبات على القول أنّ إبنتي لا تجيد العزف، إنّ إبنتي ليست عازفة سيّئة ، خاصّة على البيانو. لقد أخبرني بذلك أساتذتها أنفسهم ،منذ طفولتها وهي تدرس العزف على البيانو، وهي تحرّك أناملها بخفّة وانسياب على دساتين المعزف أحسن من أيّ سكرتيرة من سكرتيراتي.. !
الحقيقة التي لا أفهمها لماما هي عندما تعزف.. إلاّ أنّني لست فنّانا وهي تعزف جيّدا.
الحقد ذنب ممقوت ، هذا العيب الكامن فى أعدائي يمكن أن يكون العامل الخفيّ للإنتقادات القليلة الإيجابية ، ليس غريبا أنّ أحدا ممّن يبتسمون فى هذه اللحظة، وبعد لحظات سوف يغرقون فى التصفيق ، قد يدلي بهذه الأحكام المعادية.
أن يكون لك أب صاحب نفوذ ، قد يكون أمرا إيجابيا ، إلاّ أنه قد يكون كذلك مصدر شؤم ونحس،إنّه فى الوقت الذي تسألني فيه، كيف سيكون رأي الصحافة فى عزفها لو لم تكن إبنتي..؟ فإنني أعتقد جازما أنه ما كان لها أن تختار طريق الموسيقى لأنّه لم يكن لديها قطّ إهتمامات فنيّة حقيقية فى العمق.
لم يجلب لنا ذلك سوى الارتياب والتردّد والأرق. إلّا أنّ أحدا لم يحلم منذ عشرين سنة أنني سأصل إلى ما وصلت إليه. إنّه من المستحيل أن نعلم بالضبط لا هي ولا أنا من هي فى الحقيقة وما تساويه فى الواقع. إنّه من السّخف أن يصدر انشغال من هذا القبيل عن رجل مثلي.
وهي إن لم تكن إبنتي فإنني قد أعترف أنني أكرهها، وعندما أراها تظهر على خشبة المسرح فإنّ حقدا دفينا وملحّا يشتعل فى صدري نحوها ونحوي لأنني جعلتها تتّبع طريقا خاطئا . إنّها إبنتي حقيقة ولم يكن من حقّها أن تفعل بي هكذا.
غدا سيظهر إسمها على صفحات الجرائد،وسوف يتضاعف التصفيق بحروف بارزة . سوف تمتلئ هي بالفخر،وسوف تقرأ لي بصوت عال رأي النقاد وهم يطرون على فنّها، ويقرظون عزفها. إلاّ أنها عندما تصل إلى الآخرين ، هؤلاء الذين يصبح المدح عندهم أكثر تعجّبا وإشادة بها، فإنني سوف أرى عينيها تتبلّلان وتتخضّلان ، وكيف أنّ صوتها ينطفئ حتى يتحوّل إلى همس خافت ، وكيف أخيرا ينتهي بها الأمر ببكاء حزين لا متناه ، أو سوف أشعر أنّ كلّ قوّتي ونفوذي غير قادرين بأن يجعلاها تقتنع فعلا أنها عازفة بيانو جيّدة ، وأنّ باخ ،وموتسارت، وبيتهوفن سوف يشعرون بالرضى والإنشراح من الطريقة الرائعة التي حافظت بها على رسالتهم وجعلتها دائما حيّة..!
خيّم الصّمت المطلق الذي عادة ما يصاحب ظهورها على خشبة المسرح. بعد قليل سوف تنساب أناملها الطويلة الناعمة مرّة أخرى على دساتين المعزف . سوف تمتلئ القاعة بالموسيقى، وتبدأ معاناتي من جديد.
________
*كاتب ومترجم من المغرب يقيم في إسبانيا