حسين بن حمزة*
لا يفاجئنا محمد مظلوم (1963) بإنجاز موسوعة ضخمة مثل «ديوان رثاء الزوجات/ من العصر السومري إلى قصيدة النثر» (دار الجمل). لقد ظل الهاجس التراثي والنقدي موجوداً دوماً في نبرة الشاعر العراقي الذي كتب شعراً موزناً ومنثوراً، وأصدر مؤلفات تبحث في التاريخ السياسي والسوسيولوجي العراقي كما في «عراق الكولونيالية الجديدة» (2005)، و«الفتن البغدادية – فقهاء المارينز وأهل الشقاق» (2006)، ومزج ممارسته الشعرية بانطباعات نقدية عن الحقبة التي ينتمي إليها في كتاب «حطبُ إبراهيم أو الجيل البدوي – شعر الثمانينات وأجيال الدولة العراقية» (2007)، ثم عاد من التراث بكتاب «أصحاب الواحدة – اليتيمات والمشهورات من الشعر العربي» (2012). العنوان الأخير هو الأقرب إلى كتابه الحالي في تقنية البحث ومنهجية التحقيق التي درج عليها الدارسون في تحقيق المخطوطات التراثية، ومقارنة نسخها المتعددة، في سبيل الوصول إلى طبعة كاملة ودقيقة تصلح مرجعاً لدراسات لاحقة. القصد أن الانتماء إلى هوية معاصرة في الشعر، لم يمنع صاحب «أندلسٌ لبغداد» من استثمار الاحتياطي الثقافي لمطالعاته التراثية في إنجاز كتب أخرى. ثقافة تراثية حضرت بطرق مختلفة في المعجم الشعري والحساسية اللغوية وطريقة تركيب الجملة. مقارنة بأغلب ما يكتبه أقرانه ومن تلاهم من الشعراء الجدد، تبدو قصائد محمد مظلوم أقدم من زمنها الفعلي، وتحمل في طياتها مذاقات تاريخية وتراثية لا تلغي حداثة ما نقرأه، لكنها تصنع له صلات قوية مع بلاغة الشعر العربي القديم وفصاحة نماذجه. فصاحةٌ ومعرفةٌ بالتراث تمثلان جزءاً من تقاليد الكتابة العراقية التي ينتمي إليها الشاعر، وهي التي تجعل ذلك مسألة شبه بديهية في جمعه بين الشعر والنقد والتحقيق.
داخل هذا السياق، يمزج مظلوم في كتابه الجديد بين منهجية التحقيق (وخصوصاً في عودته إلى عشرات المراجع القديمة)، والدراسة المعاصرة للظاهرة أو الغرض الشعري المتمثل في رثاء الزوجات، من دون أن ننسى أن ثمة سبباً شخصياً دفع الشاعر إلى خوض هذه التجربة، وهو وفاة رفيقة دربه قبل خمس سنوات. في ذكراها الثانية، حضرت الزوجة بمرثية خاصة وطويلة احتلت ديواناً كاملاً بعنوان «كتاب فاطمة»، ولكن الفقدان الشخصي استدعى البحث عن فقدانات مماثلة في تجارب شعراء آخرين. هكذا، تحول البحث عن العزاء إلى ذريعة لتأليف موسوعة فريدة تُغني المكتبة العربية، وتستجيب – في الوقت نفسه – لدوافع ذاتية تُطيل من رثاء الشاعر لزوجته بألسنة شعراء من أزمنة مختلفة تبدأ بقصيدة اكتشفت على لوحٍ مسماري لشاعر سومي اسمه لودنكيرا، وتنتهي بمقاطع من مرثية سابقة لمظلوم نفسه، وبينهما قصائد وأبيات لأكثر من 140 شاعراً. قبل ذلك، نقرأ مقدمة طويلة وثمينة يستعرض فيها المؤلف جذر فعل الرثاء كما ورد في «لسان العرب»، ودلالات مفردة «الرثاء» واشتقاقاتها اللغوية وأغراضها الموزعة على معاني «البكاء» و«التأبين» و«التعزية» التي ترد بطرق مجازية وبلاغية مختلفة في قصائد الرثاء التي سترد لاحقاً. يعزز مظلوم مقدمته بالعودة إلى مؤلفين قدامى أمثال: ابن رشيق والمبرّد وابن قتيبة والتوحيدي والقرطاجني والأصمعي، ويقلّب الفكرة نفسها مع أفكار أرسطو في «فن الشعر»، وأشعار أوفيد، وآراء طه حسين وغيرهم، ويصل إلى خلاصات ذكية وعميقة في أن شعر الرثاء، مقارنة بأغراض وموضوعات الشعر الأخرى، هو «الغرض الوحيد الذي ينأى عن الغايات، لأنه يصدر عن عزلة داخلية عميقة تتكشف في أناشيد حزن متماسكة»، وهو شعرٌ يخرج «من الغرضية النفعية نحو غرضية فنية»، ويسعى إلى «تغليب الفن على التفنّن». ولعل جزءاً من أهمية هذا الديوان أنه يمنحنا متعة اكتشاف شعراء لا تُتداوَل أسماؤهم إلا في مصنفات التراث والمصادر القديمة. هكذا، وإلى جانب شعراء قدامى ومشهورين أمثال: جرير وابن الرومي وديك الجن الحمصي، وآخرين أحدث أمثال: الجواهري ونزار قباني ومحمد الماغوط، نقرأ أبياتاً متفرقة لأسماء مجهولة بالنسبة إلى القارئ غير المتخصص. أسماء مثل: اللوَّاح الخروصي وأبو جعفر الرامي والمعلَّى الطائي والعوَّام بن كعب المُزني، تحظى بموهبة مدهشة يتفوقون فيها أحياناً على أقرانهم من مشاهير الشعراء وفحولهم، إضافة إلى ذلك، هناك لذة متحصلة من تجاور هذه الأسماء التي لا يجمع بينها سوى فقدان الزوجة، أو المرأة المحبوبة في الملحق الإضافي. ما نقرأه هو كتاب في فن الفقد من خلال ترجمات متعددة تعود إلى أزمنة مختلفة وقصائد طالعة من قلوب محترقة بحسب رواية الأصمعي، الذي سأل أعرابياً «ما بال المراثي أشرفُ أشعاركم؟ فقال: لأننا نقولها وقلوبنا محترقة
* الأخبار