*ميرزا الخويلدي
قبل سنوات، أتيح لي أن أشاهد السجن الذي حبس فيه نيلسون مانديلا في كيب تاون، ففي زنزانة بجزيرة «روبن» قضى الزعيم المناضل ضد التمييز العنصري في جنوب أفريقيا 18 عاما من سنوات سجنه الـ27، وما زال المكان يمثل جانبا مهما من أسطورة الرجل الذي نجح في هزيمة أبشع نظام مارس الفصل العنصري، وأسوأ نظم «الأبارتايد» القائم على إذلال البشر وقهر إنسانيتهم.
على جدران السجن، وداخل الزنزانة ثمة أوراق ما زالت محفوظة، كتبها مانديلا، وعلى الجدران حفرت خيوط من المعاناة والألم، لكن ثمة جانبا مثيرا هناك، حيث لا تجد في المكان ملمحا لرجل مقهور، بل هو كهف لناسك طوى سنوات العذاب متبتلا ومتهجدا.
في ذلك السجن، سطر مانديلا مذكراته، ورسائله التي تفيض بالمعاناة والألم، وهناك كتب رسائله التي ضمنها كتابه ذائع الصيت «محادثات مع نفسي»، الذي طبع بأكثر من 20 لغة، وأصبح اليوم منهجا للبشرية في تجاوز بحور الألم والحقد والكراهية، إلى فضاء التسامح والمصالحة.
من تلك الزنزانة كتب السجين رقم 466 – 64 رسائل تقطر حزنا ومعاناة، ففي رسالته إلى زوجته السابقة ويني مانديلا، كتب: «أشعر أنني غارق في المرارة.. كل جزء مني غارق في هذه المرارة.. لحمي ومجرى دمي وعظامي وروحي.. أشعر بالمرارة لأنني عاجز تماما عن مساعدتك في هذه المحن الصعبة والرهيبة التي تمرين بها».
وفي رسالة أخرى إلى صديق يخبره عن ألمه لعدم قدرته على حضور جنازة والدته، وأيضا جنازة ابنه «ثيمبي» الذي توفي في حادث سيارة عام 1969، كتب يقول: «عندما علمت بنبأ وفاته كنت أهتز من أعلى إلى أسفل حزنا عليه».
في فبراير (شباط) 1990 خرج نيلسون مانديلا من سجنه، لكنه أذهل العالم وما زال، في النهج الذي سلكه حين بدأ حملة لتطهير الذات وتطهير جمهوره المقهور من أدران الحقد والكراهية، باشر على الفور حملة للمصالحة وتجاوز آثار الماضي وقيادة شعب منهك وفقير نحو التسامح وردم الفجوة الواسعة التي تفصله عن شركاء الوطن. كان المستقبل يبرق أمامه رغم مآسي الماضي وقسوته، فلم يضع الفرصة في تصفية الحسابات ونصب المشانق وسحب خصومه للمنازعات، حتى المحاكم التي أقيمت كان شعارها المصارحة والمصالحة، وليس الانتقام والتشفي، ولاقاه على الضفة الأخرى رجل حكيم هو الرئيس فريدريك دي كليرك.
وفي مايو (أيار) 1994 أصبح مانديلا أول رئيس أسود يحكم البلاد التي كان السود فيها يعاملون كالعبيد. وفي مذكراته يكشف أنه كان زاهدا في الرئاسة، لولا الضغط الذي لاقاه من رفاق دربه، ليقبل الرئاسة لدورة واحدة مدتها خمس سنوات.
أعطى مانديلا الإنسانية مثالا للصبر والرقي الحضاري، وأعطى البشرية نموذجا لقائد حقيقي يتسامى على الضغائن والأحقاد والكراهية، كما مثلت سيرته نموذجا للتسامح وكبت مشاعر الغضب والرعونة. كان عليه أن يروض شارعا يجمح بدعوات الثأر، ويجتر أحقاد التاريخ، ويحمل فؤوس الانتقام، وكان التحدي الأكبر أمامه أن ينهض بهذه الأمة المقهورة نحو مصاف الحضارة، وهذا العبور لا يتم بزرع الكراهية ونشر الأحقاد.
ليت العرب المسكونين بثارات التاريخ يقرأون سيرة هذا الرجل الذي أحبوه، وليت العرب الذين يعيدون كل حين استنهاض الأحقاد، واستزراع الكراهية، ينتبهون للتجربة الإنسانية والحضارية التي سطرها مانديلا. لقد استنقذ بني قومه من براثن الحقد وأصبحوا شركاء في الوطن وفي الإنسانية، بالتسامح والمصالحة والصفح والصبر. إن الحقد يدمر الذات قبل أن ينسف الوطن ويجعل التعايش مستحيلا.
______
*(الشرق الأوسط)