حين تنقذنا الاغنية


نائل بلعاوي*



يمكن، ببساطة ويسر، العثور على عناوين اخرى لهذا النص: البعد العميق للاغنية مثلا. أو: محمد عساف… الحضور والمعنى. و: عساف والهوية الفلسطينية ايضاً. 
وعديد عديد العناوين التي تجتمع، في نهاية الامر، على حقيقة واحدة تمثلها، معاً، هذه الكلمات لا اكثر: … هذه الاغنية / الحالة التي يمثلها محمد عساف ويصعد بها الى مراتب سحرية التأثير في الانا الجمعية، الفلسطينية تحديداً، حيث تعبر الانا هذه، ومنذ اوسلو تحديداً، الطريق الاكثر وعورة وسديمية في تاريخها المعروف، وحيث البحث المحموم عن امل وبوصلة للنجاة لم يصل بتلك الانا الى امل وبوصلة بل قادها، وبأقل النعوت نعومة، الى المزيد والمزيد من خيبات الامل… ضياع الدرب، وغياب المسرات على بساطتها .
خيبات الامل، هي السمة اللصيقة بالانا الفلسطينية منذ اوسلو…. اوسلو الاتفاق المريب… اوسلو هي توقيع الضحية على صك غفران لجلادها. واوسلو، اولا وقبل كل شيء، هي النزول بالقضية الفلسطينية من علياء ما وصلته وحققته: على كافة الاصعدة الثقافية والفكرية والفنية ..الخ، الى متاهة سلطة تورطت، في رام الله، بشباك مشروعها السياسي ولا تعرف، الى الان، كيف تحرر نفسها وجمهورها منه. او الهبوط المفجع والمرادف على الجهة المقابلة، من الق العلياء الى كهف الظلام الذي حفرته حماس في غزة، وها هي، الى الان وستبقى، بمنطق البدائي وتخلف رؤاه، ترعاه وتحميه 
بين شباك السلطة في رام الله وكهف حماس المظلم في غزة، صار على الفلسطيني ان يختار، أن يكون هنا او هناك، مع هذا او ذاك. وصار على الانا الجمعية / الهوية يمعنى او اخر، أن تواجه معضلة التخلص مما علق ويعلق بها من مؤثرات لهذا وذاك. ان تعيد ترتيب روحها وطريقها بما يتفق مع حمولتها التاريخية : انسانية التنوع ومدنية الرؤى. انها الحمولة التي مكنتها، في يوم ليس بالبعيد، من لعب دور تنويري، بالغ التأثير والرقي، في الثقافة العربية بأسرها… ولكن ؟ تبدو المهمة صعبة وشائكة، فما يعلق بالانا / الهوية من هواجس وفواجع لا بد وأن يربكها … يهز توازنها.. يعمق فوضاها ويدخلها في عنق زجاجة كارثي.
هنا بالضبط، في عنق الزجاجة ذاك، حيث الانا / الهوية حائرة، مضطربة، ومنقسمة على نفسها وعلى ما يُطرح عليها من مشاريع ودروب غامضة او ظلامية ولا شيء اكثر. هنا بالضبط تقف الثقافة الفلسطينية، عماد الانا الجمعية ومنارتها، امام سؤال حضورها المركزي وحجم دورها وتأثيرها. انه السؤال بالغ الاهمية وعميق المعنى والغائب، الى حدود قصوى، عن السجال الثقافي الفلسطيني وعن اليات انتاج الثقافة الفلسطينية عموما. فعلى الرغم من ان الحديث يدور حول اختلاف جوهري وكبير بين حجم الحضور البهي لتلك الثقافة قبل اوسلو وتقلص ذلك الحجم بعده، الا أن المثقف الفلسطيني لم يلتفت، كما يبدو، لهذا الفارق الهائل، ولم يدرك مقدار خسارته، هو ومنتجه الثقافي، ومقدار خسارة القضية الفلسطينية ذاتها في ظل هذا الغياب. وربما، تحول المثقف، من ناحية، ذاك المناط به وبثقافته دور أثراء الانا الجمعية / الهوية ومدها بأسباب الثبات والتطور، تحول هو ذاته الى ضحية لتلك المؤثرات العنيفة التي عصفت بالهوية العامة ، وكأنه قد ترك الساحة، من ناحية ثانية، ممهدة أمام السياسي كي يتقدم خطوات وخطوات على ما هو ثقافي. مغلقاً، في الوقت عينه الباب الذهبي على العصر الذهبي الذي عرفته الثقافة الفلسطينية وكبرت في ظله .
هنا بالضبط يواجه المثقف سؤال حضوره / غيابه. وهنا بالضبط يمكن للمتلقي تبرير هذا الضجيج الجميل المحيط بهذا الفنان الشاب، محمد عساف، وترجمة الغازه العديدة. الغاز هذا الضجيج، واكرر : الجميل. فنحن هنا، نادرا ما نكون هنا، امام ضجيج لا تحركه خطب الزعماء وقادة الهواء. ولا امام الضجيج الذي تثيره فتاوى شيوخ ما قبل اكتشاف النار. ولسنا في ضجيج الحرب وجحيم الاسلحة، بل، وللمرة الاولى من حسن الحظ، في ضجيج الايقاع … الق الايقاع والاغنية… حسن الاداء، وما يمثله صاحب الاداء الرفيع من معان وامل .
المعاني والامل هي المفاتيح الممكن الولوج بسحرها الى قلب الحالة الفريدة التي خلقها وعمدها عساف، وقد حاولت، في الجزء اعلاه، وصف المعاني هذه عبر ربطها، كما تصورت، بحالة الفوضى وهيمنة اليأس، على الانا / الهوية الفلسطينية وحاجتها، في هذا الوقت وكل وقت، لضوء نهاية النفق. لفعل سحري الوقع يصوبها ويخفف، قدر المستطاع من اوجاعها… يمدها، بلا وعود خرقاء، بالامل.
لا يقلل هذا الربط / التفسير المقترح / من الحالة الفنية ذاتها : صوت الشاب وحضوره، بل العكس هو الصحيح تماماً، فلولا الموهبة الطبيعية التي يتمتع بها عساف لما تمكن من التحول الى حالة عامة اصلا. لولا انسجامه مع نفسه كفنان لما تمكن من اقناعنا، حد الاعجاب الشديد، بما يقدم. ولكن، على الرغم من هذا المديح وهذه الموهبة التي تستحق الثناء، تبقى اجوبة الاسئلة التي اثارتها حالة عساف مدفونة في الحقول العصية، المذكورة، الاخرى. وهو الامر الذي يحسب لصالح الفنان وليس ضده. فها هو الشاب، خفيف الظل، يتحول بسرعة برقية الى حالة اجماع، غير مسبوق، لهذه الانا الجمعية المتعبة. ها هو يشير الى حكمة الفنون وطاقتها على التغيير. وها هو، اخيراً، يدل على ان الاغنية قادرة، بل هي القادرة، على انقاذنا .


* شاعر من فلسطين يعيش في  فيينا
(القدس العربي )

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *