* يوسف عبد العزيز
يجيء الاعتصام الذي ينفّذه الكتّاب والفنّانون في مبنى وزارة الثقافة المصرية، للإطاحة بوزير الثقافة الجديد، كبارقة أمل على طريق تمتين الحياة الثقافية في مصر، وحمايتها من الانزلاقات الخطيرة التي يمكن أن تقع فيها. أمّا ما يحدث في مصر، فيمكن أن ينتقل إلى بقية الأقطار العربية، ويدفع بالمثقفين العرب للدّفاع عن أنفسهم وعن مكتسباتهم.
حين انطلقت الثّورات العربية قبل ثلاثة أعوام، لم يكن للمثقفين العرب فيها دور يُذكَر، باستثناء بعض المشاركات، وبيانات التّأييد القليلة التي صدرت هنا وهناك. في واقع الأمر كان هناك حالة من الفراغ المدوّي على مستوى الفعالية الثقافية، وتأثير الثقافة في الحياة العامّة. ولعلّ تشرذم المؤسّسة الثقافية العربية، وغياب التّقاليد التي ترعى الثقافة في حقبة الدولة العربية البوليسية، قد أدّيا إلى هذا الفراغ الذي نحن بصدده.
في ما مضى، كانت الثقافة برمّتها مركونة إلى الهامش، والذي يعاين هذا الجانب، يرى بوضوح الحالة المأسوية التي كان يرزح في ظلالها المثقّفون العرب. فهناك من جرى اعتقاله! وهناك من جرى منعه من السّفر! وهناك من جرى مصادرة كتبه، وتقديمه إلى المحاكمة! ينبغي ألا ننسى هنا أيضاً، حالة العداء المضمرة لدى فئات شعبية مناوئة للمثقفين، كانت تتربّص بهم، وترى في كتاباتهم نوعاً من التجديف! الأمر الذي أدّى إلى وقوع عدد من الاعتداءات عليهم. ولعلّ محاولة الاعتداء على الروائي الكبير نجيب محفوظ التي جرت في عام 1994، خير مثل على ما نذهب إليه. حين تمّ استجواب الشّاب المعتدي، قال إنّ ذلك كان بسبب رواية محفوظ «أولاد حارتنا»، وحين سألوه عن الرواية قال إنّه لم يقرأها، واتّضح حينها أنّه أمّي لا يقرأ ولا يكتب، وأنّ هناك من أمره بالقيام بفعلته الشّنعاء.
في هذه الأثناء، كانت اتّحادات وروابط الكتّاب العربية، التي تمّ إنشاؤها في سبعينات -وثمانينات- القرن المنصرم، تحاول أن تجد لها مكاناً في الحياة الثقافية العربية، لكنّ الوسائل البدائية التي اعتمدتها في العمل، وافتقارها إلى رأس المال اللازم لصناعة الثقافة، والتّناحر الذي ساد صفوفها، هذا بالإضافة إلى محاربتها من قبل الأنظمة، كلّ ذلك جعل منها مجرّد أمكنة محنّطة لا تجد لديها ما تقدّمه! لم يكن ما تفعله أكثر من إصدار البيانات، التي هي في واقع الأمر مجرّد أوراق لا تقدّم ولا تؤخّر! كان يمكن هذه الاتحادات، بخاصّة أنّ عمر بعضها قد جاوز الأربعين عاماً، أن تساهم في بناء الثقافة، وأن تعمل على إشاعة تقاليد ثقافية حقيقية، وذلك من خلال مأسسة نفسها، وحضورها الفاعل في الشّارع. لكنها لم تفعل، وانتهت إلى ما هي عليه الآن.
إذا ما انتقلنا إلى وزارات الثقافة العربية، لن نجد الأمر أفضل ممّا كانت عليه الروابط والاتحادات السّابقة. فهذه الوزارات في كثير من الأحيان، كانت تعطى كحقائب ترضية، لأشخاص لا علاقة لهم من قريب أو بعيد بالثقافة. ربّما يكونون أطبّاء مثلاً، أو ضبّاط أمن سابقين، وفي أحسن الأحوال أكاديميين يدرّسون في الجامعات ولا شأن لهم بالثقافة المُنتَجَةً.
بعد ثلاثة أعوام على اشتعال الثورات العربية، يجد المثقّفون العرب أنفسهم في حالة شديدة من الضّياع. ولعلّ التّصدّعات الرهيبة التي شقّت هذه الثورات، والتّمظهرات الإثنية والطائفية التي طفت على سطحها، قد خضّت طُمأنينة المثقّفين، وقذفت بهم إلى العراء. خرجت الجماهير التي ثارت، من حقبة ديكتاتور الفرد، لتدخل حقبة ديكتاتوريّة الجماعة! أمّا في ما يتعلّق بالشّأن الثقافي في ظلّ هذه الديكتاتوريات الجديدة، فلم تعد الأمور تقف عند حدود منع كِتاب أو اعتقال كاتب، بقدر ما أصبحت تتهدّد الحياة الثقافية برمّتها. ثمّة أجندات خاصّة لهذه الديكتاتوريّات تنظر بعين العداء للثقافة، ولا ترى في الأجناس الأدبية والفنية المعروفة، غير شطح وهذيان لا طائل وراءهما! في الأعوام الثلاثة الماضية وقع عدد من حوادث الاعتداء على الثقافة والمثقفين، في كل من تونس وسورية ومصر واليمن والأردن، كما تُوِّجت هذه الاعتداءات بقطع رأس كلٍّ من تمثال أبي العلاء المعري في سورية، وتمثال طه حسين في مصر. وإذا ما دقّقنا النّظر في هاتين الحادثتين الغريبتين فسنرى أنّهما تحملان في ثناياهما أبعاداً رمزية، تشير إلى رغبة دفينة لدى المعتدين في البطش بالثقافة العربية ورموزها القديمة والمعاصرة.
في مصر قام وزير الثقافة الجديد، بإقالة رئيس هيئة الكتاب، ورئيس دار الأوبرا، وهو الأمر الذي اعتبره المثقفون مقدّمة فعلية لتقويض الحياة الثقافية، وفرض الوصاية عليها، الأمر الذي دعاهم إلى المبادرة بالاعتصام، والدّعوة لإقالة الوزير. ومن أجل ذلك فقد حدّدوا مطالبهم، من خلال البيان الذي أصدروه.
ربّما ينجح المثقّفون المصريّون في مسعاهم، بإقالة وزير الثقافة الجديد، ولكنّ تلك الخطوة لن تكون سوى الخطوة الأولى على طريق النضال الشّاق والعمل الدّؤوب الذي ينتظرهم، كما ينتظر المثقفين العرب، وذلك في ظل أوضاع متردّية تتهدّد ليس الثقافة فقط، وإنّما المستقبل الحضاري للأمة العربية. أمّا ما يحدث في مصر الآن فيمكن أن يكون نموذجاً يُحتذى لبداية جديدة ونوعيّة، على طريق المجابهة الثقافية، وفرض أسس جديدة في العمل الثقافي.
_______
* شاعر من الأردن(الحياة)