كلينكس


* عبد السلام الطويل


(محكيات)
1- طقطقة 

في الليل، لا يطيق الإنسان سماع الطّقطقة، مهما خفت وخفتت معها تلك الأصوات المواكبة لها نهارا ، لأنها مهما خفتت، تظل مسموعة ومؤذية وتعمل على بعث ذلك الإحساس بالدّناءة والخزي في جذور- الإنسان واستفزازه وتحدّيه عن أن يفعل شيئا يغير- به مجرى ما يحدث ، فقد كتم غيظه واحتمل ما يكفي ولم يعد يُحسّ أنّه صبور.
وحتى إن وجدته و قلت له بأن هذا ليس سلوكا حضاريا، فسيعتبر قولك تافها. والأسوأ أن القانون يعاقب على السُّكر العلني، لكنه لا يعاقب على الطّرق. 
لذلك كنا نبرر الأمر لأنفسنا أنه مجرد قلق داخلي ، لو لم يكن ، لما كانت الطقطقة ببساطة . لولا أننا كنا نوقن أن الطقطقة هي التي تبعث التوتر و القلق وتلقي بنا في مستنقع ذلك الإحساس بالهوان .
سيقول الشخص أيضا إن له ترخيصا ، وأنه سدد عدة رسوم للدولة، وبعدئذ إنه في منزله، وباختصار،إنّه حُرّ. ستسأله أية حرية هذه التي تزعج الناس ؟ ! وأن هذا مجرد تبييض لأموال المخدرات … 
تأكد أنه قول لن يسكته . من جهة أخرى ، يحدث هذا في كل منطقة من المدينة التي تتحول إلى عصر”صناعي” مزعج ووبيل ، لا صوت يعلو فيه على “التبييض” والهدم . 
المستغرب أن الرجل لا يُبدّد الوقت، لا يتناول طعاما ولا يسمع الأخبار ولا يذهب إلى المسجد ولا حتى إلى البقال المجاور و لا يستريح في أيام الأعياد أو حتى في فاتح ماي . 
حين نستفيق صباحا، نجد الطقطقة، وحينما ننام نتركها . في البداية ، اعتبرناها عابرة ولم نعرها اهتماما ، لولا أنها تواصلت .
لا نرى الرجل الذي يخبط ويجرّ و يلقي ويكسر ويهدم . كنا نعتقد أنه معتوه ، لأنّه حينما حصل مرة وتوقف الخبط وانعقدت هدنة مستحيلة ومفاجئة. ما الذي حصل؟ تساءل الجميع ، فكأنه لم يجد حيطانا . لكنه ما لبث أن أخذ يشتم ، من كان يشتم ؟
الطقطقة والطّنين والجَرّ والإلقاء من أعلى لأشياء فادحة .
يتواصل الطرق كل الأيام وكل الليالي وكل الفصول. منظر الأشجارالعارمة والخضراء و التي وجدناها هنا ، وجانبا من السماء وجزءا من البحر ، وباقي الأفق الرّحْب . انقطع كل شيء . كنا نحب أن نسمع الأمطار وهي تنهمر في الليل ،والرياح والرعود والعاصفة، كأنه كان يعلم بذلك ، فيرفع من نبرة الطقطقة، ونحس بتسفيه للأمطار، وببعثرة لمشاعرنا . 

2-كلينيكس
الحياة ناعمة وحريرية وأبّهة، مثل أوراق الكلينيكس. بإمكانك أن تقترب منها أكثر وأن تحملق فيها وأن تلامسها ، هي بارزة و تغويك بلمسها ، وإذ تفعل، فسوف تزهد بالتأكيد في أية نعمة أخرى كإمعان النظر أو الاكتفاء بالتطلع من بعيد.
3- أومليط
ينبعث الهديل من سطح البناية غير المسكونة هناك، غير مسكونة بالتأكيد ومهجورة، يحيط بها سور وأشجار ونوافذها مغلقة ومتسخة وجدرانها خربة ولا تشبه البنايات المجاورة، بقرميدها الأحمر الذي يقيم فيه الحمام، وتجذب النظر إليها بطرازها الخاص والفارغ وسط كل الأمكنة المُكدسة، لولا الهديل الرّتيب الذي لا ينتهي مُغطّيا على تغريد الطيور الأخرى المقيمة بدورها هناك . 
في يوم، حينما عدنا، تهالكنا على الفراش لكي نستريح. سمعنا فجأة الهديل قريبا، يصدر من زاوية ما داخل الغرفة. بحثنا في كل الأركان، فلم نجد شيئا، ولكن تواصل الهديل . بعد حين تبيّن لنا أن الأصوات تنبثق من تحت الفراش، فاستولى علينا الذعر . 
لاشك أن الحمامة دخلت من النافذة التي تركناها مفتوحة حينما خرجنا . 
فكرنا في الأمر ولم نجد بدا من إخراجها من تحت الفراش بمكنسة أدخلناها من تحت وحركناها حتى تمكنا من إخراجها ، وحينئذ فتحنا لها الباب وقلنا لها: هيا تفضلي مع السلامة !وغمرنا إحساس بالفرح.
لكنها لم تذهب ، بل حلقت في أرجاء الغرفة وكسرت كل ما هو مُعلق على الجدران وكادت أن تجعل منزلنا يشبه الخرابة المواجة، فتحسرنا في البداية غير أنه ساورنا حين تمكنا، بعد تعب مضن ، من إخراجها ما يشبه النصر في معركة كنا نعرف أنها غير متكافئة . وعدنا في الأخير إلى أماكننا لنستريح وغنينا “الحمام اللي والفتو مشاعليا…” . وبقينا هناك إلى أن حان موعد الأكل فقمنا لتهييء الأومليط . ما أشد ولعنا بالأومليط ، نطبخه كل يوم وعدة مرات . في المطبخ وجدنا الحمامة، التي نظرت إلينا كأنها كانت تستغرب من تأخرنا هكذا. 
4- عويل 
تنبح الكلاب ليلا ، تصدر أنينا وعوّاء وخليطا من النحيب والأصوات المتوسلة والمستنجدة والتي تشبه الاستغاثة ، بحيث تُحسّ إحساسا قويا أنها ترى شيئا لا نراه نحن ، ومن كونها أيضا لا ترانا ولا يرانا الناس حيث هبت قبيلة من البنائين لمساعدة الرجل على قلب المدينة، ولم تكن ترانا الحمامة . 
_________
* قاص من المغرب/ (العلم)الثقافي 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *