إبراهيم صموئيل *
منذ فاز محمد مرسي بانتخابات الرئاسة وتوّلى الإخوان المسلمون السلطة، طُرح السؤال: «هل قامت مصر بثورتها لتستبدل الإخوان المسلمين بالنظام السابق؟!» والسؤال لم يكن استفهامياً، كان تعجبياً استغرابياً، إذ ليس من أهداف الثورة، ولا من المعقول تبديل لونٍ بلون، ليرزح الشعب المصري، على تعدد اتجاهاته وانتماءاته وألوانه، تحت لون واحدٍ وحيد من جديد!
جوهر الثورة في مصر، كما في باقي بلدان الربيع، اسقاط اللون الواحد، واستبدال ألوان قوس قزح به، لأن شعب البلاد متعدد الألوان، ولأن المشكلة الأم تكمن في رفض اللون الواحد، يسارياً كان أم يمينياً، متديناً كان أم علمانياً، في هذا القلب أم في ذاك القلب.. جوهر الثورة أن يكون المواطن مواطناً، وأن تكون المواطنة (وهي ليست لوناً بالطبع) القاسم المشترك للجميع من دون استثناء بصرف النظر عن انتمائه السياسي أو معتقده الديني أو مذهبه أو منطقة ولادته… إلى آخر ما هو خارج مفهوم المواطنة. وهو ما عُبِّر عنه بالشعارات المرفوعة: «مصر لكل المصريين» أي لجميع أبناء البلد كما تونس وغيرها لجميع أبنائها.
ثم سؤال آخر: لو فاز بمنصب الرئاسة يساريٌّ ينتمي إلى أحد الأحزاب الشيوعية، هل كان الشعب المصري سيقبل الانضواء تحت عباءة الشيوعيين، فكراً وممارسة ومنهجاً، وفي ظل راية حمراء لا ترفرف في سماء مصر راية أخرى غيرها؟ ما يجدر التنبّه إليه، في ظل الجدل الدائر الآن والمخاطر الحقيقية التي تواجه مصر، هو أن ثورات بلدان الربيع العربي إنما نهضت ضيقاً واختناقاً من الاستئثار… ضيقاً واختناقاً من اللباس الموحَّد أياً كان لونه ونوع نسيجه. شَدُّ البساط إلى جهة بعينها، هذا عينُ المرفوض، بساط مصر لكل الجهات ووجهات النظر، كما بُسُط غيرها من البلدان العربية.
لم تجرّب بلداننا تداول السلطة على نحوٍ نزيه وديموقراطي وشفاف، ولم تعش شعوبنا لسنوات وسنوات حياة الديموقراطية والعدالة والتعددية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان والتعبير عن الرأي… الخ. نحن، جميعاً، وُلدنا وقضت أجيالٌ عديدة منّا، وستقضي أخرى ما زالت في عداد الأحياء، من دون أن نتذوق تلك الثمرة المحرّمة: المجتمع المدني! عشنا تحت الاستبداد، بالمعنى العريض والمتنوع للكلمة. تلوّث دم العربي بنواتج ومخلفات وآثار الاستبداد. وحين حدث ـ أخيراً ـ هذا النهوض الشعبي العارم، فإن الناس لم يعودوا يطيقون تحمّل أي شكل أو طيف أو رائحة تذكّر أو توحي أو تومئ أو تستدعي كابوس الماضي اللعين.
مفهوم جداً أن تقبل الشعوب «المرتاحة» وتتقبّل غلبة هذا التيار السياسي أو ذاك على الحكم. فوز رئيس ذي لونٍ، ثم انتخاب رئيس ذي لونٍ آخر. تلك شعوب «مرتاحة»- فضلاً عن ضمان دساتيرها وتشريعاتها للتغيير- نحن شعوب مقهورة، مسحوقة، مستعبَدة لأزمان مصادرة حقوقها لعصور، مسلوبة الرأي، ومقصيّة.. للتوّ راحت تخلع عن نفسها النير. للتو شرعت تجرّب الحرية، أي أن اكتواء الماضي ما زال تحت جلود أبنائها وفي أرواحهم. ما من سبيل للاستبداد من جديد، أو تقبّل أي طيف له يلوح ولو من بعيد.
ثمة عدلٌ في الدنيا. ثمة شورى. ثمة تشاور وتداول. ثمة وفاق وتوافق. ثمة بقعة أرض خضراء يمكن أن يلتقي فوقها الجميع. السلطة ليست فرصة للتسلّط، حتى إذا ما جاءت سلطة أخرى ذات لون آخر تسلّطت من جديد. إنْ لم نفهم ذلك ستنشأ حركة «تمرد» وتملأ الساحات والشوارع هاتفة بإسقاط الماضي بأي لبوسٍ جديد كان. وحين لن يحدث، ستنشأ «حركات تمرد» أخرى بقوة الضرورة، إذ يستحيل على الخارجين من كهوف الظلمات والظلم أن يعودوا إليها، أو ُيعادوا قسراً إليها. إنْ لم نفعل ذلك- جميعنا على اختلاف انتماءاتنا- فإننا لن ننجز سوى استنساخ الماضي!
___________
*قاص وروائي من سوريا(الراي ) الكويتية.