شُفِيَ تماماً


*صلاح أبو هنود
(ثقافات)
صارت حكايات جدّة مملَّة ، يكرر في ليالي الشتاء والصيف نفس القصص، “شَنك قلعة ” وهي قصة تدور أحداثها في قلعة حلب، أو حين مكث سبعة أيام تحت الثلج في رومانيا حين كان يقاتل في حروب الخلافة العثمانية وغيرها الكثير.
ورغم ذلك فإبراهيم يؤمن كشاهد عيان أنّ جدَّه من الشخصيات المباركة في القرية ، فهو مثلا لم يمرر موس الحلاقة على وجهه ابدا لشدَّة تديُّنه منذ الصغر ، ممّا أكسب لحيته قداسة تفرَّد بها عن باقي اللِّحى في القرية وليس هذا فقط بل تمتع بامتيازات حصريه مثل :
لا يستطيع المؤذن أن يرفع الآذان الاّ على توقيت ساعته التي تعمل بالتوقيت العربي عكس كلّ الساعات الحديثة، ولا يجوز لأحد من أهل القرية أن يجلس مكانه في المسجد حتى ولو غاب عن صلاة الجمعة وقال الخطيب (أتموا الصفوف وسُّدوا الفُرج) .خوف أساتذة المدرسة من التصريح أمامه أن الأرض كروية ، شفاء الناس من سمّ العقارب حين يتمتم ثم يبصق من ريقه قليلا على مكان اللدغ ، انقاذ حفيده ذات ليلة من الجنون ببعض كتابات خطَّها على صحن فنجان القهوة الأبيض بقلم الكوبيا فنام الحفيد الشقي وقد ذهب ما به من مسّ ( تبين بعد مدة أن حفيده كان قد تعاطى الخمر يومها ) ، رحلته المتكررة للحج الى مكّة و أغاني التحنين التي تغنيها له النساء أيام الوداع وأشياء أُخرى .
كانت صدمة الجميع كبيرة بعد رجوعه من الحج الأخير حين كان لا يرّد على من كان يقول له ( حجا مبرورا وسعيا مشكورا) ، لم يجرؤ أحد على سؤاله لماذا أو تقصّي أسباب بكائه المتكرر وكآبته الواضحة التي لازمته حتى هَرِمَ وابيضّت عيناه .
كبر الحفيد وغادر القرية للدراسة في الجامعة وفي نهاية السنة الدراسية عاد إلى القرية وذهب للسلام على جدِّه وتقبيل يده كعادته منذ الصغر.
بصوت واهن سأل الجد :
ما الذي تدرسه في الجامعة يا إبراهيم؟
أجاب الحفيد : علم النفس
الجدّ : (شو) يعني علم النفس؟
ابراهيم : سأصبح طبيباً نفسيا.
الجدّ : الحمد لله ، يعني ستجلب لي قطرة تشفي عيوني.
إبراهيم : يا جدي علم النفس هو شفاء صحة الناس النفسيّة من مشاكل عميقة غيرَّت مجرى حياتهم وأصابتهم بالهَّم والحزن فيساعدهم الطبيب النفسي على تجاوزها والشفاء منها بعد أن يسألهم اسئلة كثيرة ومن أجاباتهم يستطيع اكتشاف السِّر ومساعدتهم فمثلا هذا الحزن الذي أنت فيه قد يذهب ببعض الأسئلة والإجابات.
الجدّ : ومن دون أدوية؟
إبراهيم : أحيانا كثيرة من دون أي دواء.
سال الدمع من عين الشيخ وقال لحفيده : (يا ريت).
ابراهيم : أريد أن أسألك يا جدّي سؤالا، ما زال يحيّرني مذ كنت صغيرا وأرجو أن تجيبني.
الجدّ : إسأل يا بني.
إبراهيم : لماذا حين عدَّتَ من الحج آخر مرَّة لم تُجبْ على تهنئة الناس.
رجف الشيخ رجفا شديدا حتى ظن الحفيد أن عظامه ستتكس، وانهمرت دموعه ، وبدأ يتحدث بصوت متهدج :
لقد حججت إلى الله ست مرات من قبل; لم أزنِ في حياتي ، لم أسرق ولم أتزوج على امرأتي التي ماتت صغيرة كي لا تأتي امرأة أخرى فتُنكدّ عيش صغاري اليتامى ، ولا أذكر إني فعلت ما يغضب الله في حياتي، لكن أثناء طوافي بالكعبة كان هناك رجلا ضخما يطوف مسرعاً، وعندما مرّ بجانبي ضربني بكُوعه ضربة مؤلمة أطاحت بي ، فشتمت دين الله في بيت الله .
كانت هذه آخر مرّة سمع فيها ابراهيم صوت الجَدّ ،وقد شُفي تماما.
__________
* مخرج وأديب من الأردن.

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *