فصل من رواية “مملكة الفراشة” لواسيني الأعرج



(ثقافات)

نشر الروائي الجزائري واسيني الأعرج في صفحته على “الفيس بوك” فصلاً كاملاً من روايته الجديدة”مملكة الفراشة”، معتذراً للقراء عن عدم دخول الرواية بعد إلى الجزائر، قائلاً :

(“مملكة الفراشة ” ما تزال محصورة في أمطار الجزائر العاصمة، ولم تدخل إلى الجزائر مع أنها وصلت إلى كل البلدان المغاربية منذ أكثر من أسبوع هل هي رقابة مقنعة؟ أم نسيت سهوا في المطار؟ أتمنى أن يكون ما حدث لمملكة الفراشة في الجزائر هو مجرد بيروقراطية لا تفرق بين رواية وبين مجلة وبين كتاب وبين استيراد السكّر والقهوة والأدوية وقطع الغيار؟ 
استجابة لمئات الرسائل التي وصلتني من الأصدقاء تسألني عن الرواية، أنشر هنا فصلاً كاملاً من الرواية يعطيهم فكرة ولو عامة عن مسارات النص، في انتظار وصول مملكة الفراشة. أعتذر من الأحبة ان مملكة الفراشة لم تصلهم.) .
يُذكر أن ”مملكة الفراشة”، الصادرة حديثا بالعاصمة الإماراتية أبو ظبي، في انتظار صدور طبعة دار ”الآداب” ببيروت في سبتمبر المقبل، وطبعة ”الفضاء الحر” بالجزائر في أكتوبر المقبل تتحدث عن نتائج الحروب الأهلية التي اختصرها في الانتقام والجنون والعزلة، وهو ما دفع الأعرج لطرح تساؤلات فيما إذا كانت الحروب الأهلية قد انتهت أم أنها لازالت موجودة ؟.
وقد حاول في روايته الجديدة أن يبرز تأثيرات الحروب الأهلية على نفسية وحياة المواطنين، موضحا كيف تدفع هذه الأخيرة بالأشخاص إلى العزلة وبناء عالم خاص بهم، وكيف يسيطر الخوف على أذهانهم وعقولهم حتى بعد انتهاء هذه الحروب ليبقى بذلك محفورا في مخيلتهم ويصبح جزء لا يتجزأ من حياتهم، وهي التفاصيل التي تعكسها بطلة الرواية، التي ترى بأن الموت والقتل لم يتوقفا أبدا لقناعتها أنهما عادا إلى البروز في أشكال أخرى لا تقل خطورة عما كانت عليه.
لذا جاءت ”مملكة الفراشة” للحديث عن انعكاسات الحروب الأهلية من خلال عائلة يعيش أفرادها العزلة والخوف، بداية من بطلة الرواية ” مايا” وهي شابة تسلمت صيدلية والدها الذي فضل الاعتزال والبقاء في البيت لإنتاج الأدوية الضرورية لصيدليته بحكم أنه اشتغل في أكبر المخابر في باريس، لكن سرعان ما تضطر هذه الشابة لإغلاق الصيدلية بسبب الأوضاع الأمنية الصعبة التي لم تنجح في مواجهتها أو التأقلم مع مستجداتها، لتنظم بذلك إلى العزلة الاختيارية التي غرق فيها والديها، ولتبقى هي الأخرى حبيسة المنزل قبل أن تجد في الفايسبوك متنفسا لها ومصدرا للتواصل مع أصدقائها والعالم الخارجي، حيث خلقت الفتاة عالما موازيا لعالمها الواقعي بعيدا عن عزلة البيت والمجتمع، إلا أنها اكتشفت أخيرا أنه كان سببا في تورطها بعلاقة مشبوهة مع مخرج مسرحي منفي.
فصل كامل من رواية “مملكة الفراشة” :
أخيرا….
كنت سعيدة بعودة فاوست التي أصبحت مؤكدة بعد العديد من المشكلات الصغيرة. لم تخل أية صحيفة وطنية، بما في ذلك جريدة الأمة الرسمية التي وضعت الخبر داخل مربع جميل بصورته: بعد قرابة العشر سنوات من المنفى، يحل غدا بأرض الوطن الفنان المسرحي الكبير فادي… لعرض مسرحيته العالمية: لعنة غرناطة. التي حاول أن يجعل منها مدخله الخاص للسلام الذي تنعم به البلاد وإسهامه المميز في نسيان سنوات الرماد. 
عندما كتبت لفاوست أبارك عودته، كان ذهني خاليا من أي رماد أو غضب، سوى الفرح بعودته الكبيرة لأهله وذويه ومحبيه. كانت رغبتي كبيرة في نسيان جرحي الذي صعب عليَّ رتقه بسرعة، واختبار قلبه الذي أتعبته سنوات الموت والمنفى. نحتاج إلى الكثير من السخاء لنستحق لقب العاشق:
– أتدري حبيبي. أشتهي أن آتيك للمطار بسيارتي الصغيرة. ربما ليست على قدّ مقامك، ولكن شيري مليئة بالحب والدف. أحسد من يراك وتراه قبلي.
– لن أرى أحدا. سأغمض عيني ولن أفتحهما إلا على وجهك. لا تشغلي بالك عليَّ. أخاف عليك. سأُستقبل رسميا. ثم أن هؤلاء بشرا لا يوثق فيهم أبدا. أفضل أن تظلي بعيدة عن شرهم. سنلتقي في عرض لعنة غرناطة، وحفل التوقيع. وبعدها نهرب مع بعض حيث تشائين. سأكون مِلكا لحبيبتي.
– حبيبي فاوست، أنا أيضا أخاف عليك.
– ألم أقل لك إني عَظْمٌ جاف، يرتشق عرضا في حلق كل من يريد إيذائي.
– أعرف حبيبي. لكن… قد لا يؤذونك بالقوة دائما، وبشكل مباشر…
– يعني؟
– ألا تخاف من أن تكون الدولة نفسها هي ميفيستوفيليس؟
– يشترون روحي يعني؟ هههههه صعب عليهم بعد كل هذا العذاب. لا. أبدا. من هذه الناحية كوني مرتاحة. أيام قليلة ونلتقي. ونضع حدا لكل هذا الغياب الصعب.
– ومع ذلك فانا جد خائفة وسعيدة جدا بعودتك يا غالي. لم تعد الأبواب والنوافذ الزرقاء كافية لاحتضان جنوني، أريد أن أشعر بك. أسمع أنفاسك. أن تكون لي.
– لم تبق إلا ساعات حبيبتي وينتفي كل الغبار الذي غطى أجمل أشواقنا وكاد أن يبيدها لولا المقاومة التي سحبناها وراءنا من شجاعة أجدادنا. لا تخافي… 
ثم انطفأ الضوء الأخضر. عندما بحثت عنه على المساحة الزرقاء من بين أصدقاء آخرين كما تعودت أن أفعل قبل غضبي منه، لم يعد موجودا في أي مكان. هل ذهب للنوم من شدة التعب؟ كل شيء أصبح مغطى بغلاف خشن من الريبة. منذ الحادثة لم يعد يتراسل على المكشوف كما كان يفعل دائما. كان يغلق على نفسه مثل المحارة، ربما تفاديا لملاحظاتي القلقة وحتى لإيذائي، ويدخل في عالمه الذي كان كل يوم يحتل مساحة منه على حساب حبي له، لدرجة نسياني. أفهم جيدا انشغاله بسفره ولكن… لا أتصوره صامتا للحظة ينظر إلى سقف السماء، ولا يرد على ذلك الجيش من المنتظرين على حواف صداقته الملتبسة، وكل واحد يظن أنه الواحد الأوحد.
كل شيء يندفع كالموجة العملاقة نحو خوفي.
جرحي لم يسعفني لآخذ الأشياء ببساطة على الرغم من أن مكالمته التليفونية الوحيدة منذ أن تعارفنا، غيرت الكثير فيَّ. حلت معضلة الصمت البارد الذي كان بيننا. لا أعرف كيف اهتدى إلى ذلك؟ أثر الصوت أكبر من الكتابة الخرساء مهما كانت جميلة. بحّة صوته غلفتني بدفء كبير لم أشعر به إلا وأنا أسمعه. كيف يملك البشر أصواتا تتملكنا بقوة. كلماته الهاربة منحتني مساحة بيضاء أخرى، ولو صغيرة، في قلبه. لكن من بحّته ايضا، شعرت بشططه العميق. لكن شيئا غامضا فيَّ ظلّ معلقا في الهواء. بين الموت والحياة. بين الخير والشر. بين اليقين والريبة. تساءلت في داخلي وأنا لا أعرف إن كنت محقة أم لا: ماذا تعني لرجل مشهور مثله، فرماسيانة صغيرة فشلت في كل تجاربها الغرامية التي ليست كثيرة بدون أن تعرف لماذا؟ ربما لأن الشاب الذي أختارته لها أمّها بعد موت ديف مباشرة، كان موازيا لهبلها ولو بشكل معكوس. فقد انسحب المسكين من تلقاء نفسه، تماما مثلما فعل شارلي. كان الأمير ميشكين، هكذا أسميته، عن أبله ديستوفسكي ، يريد الفرماسيانة التي تحل مشكلة بطالته أكثر من المرأة التي كانت تحلم بأن تكون معشوقة بشكل كامل ليس أقل من جنون ديف. عندما رفضَتْه بصوت عال وقالت له: اسمع يا ولد الناس، روحْ داوي روحك. أنت لا تصلح لي وأنا لا أصلح لك. أصيب بصرع كاد يقتله لولا بعض المارة الذين وضعوا في كفه قطعة نقود ومفتاحا أرجعاه إلى الحياة. غادر بعدها الوطن غضبا من دون أن يترك أي خبر سوى احتجاجه في رسالة: ستندمين. سترين شكون هو هذا الرجل؟ قيل إنه هاجر إلى اسبانبا مع الحرَّاقة، وقيل أيضا إنه دخل إلى مستشفى متخصص في الصّرع. بعد سنتين من غيابه رجع لها حاملا باقة ورد برفقة أمه، يرتدي لباسا ملكيا أبيض ومنيَّشا، مع ربطة عنق فاقعة اللون. كانت قد نسته نهائيا. كادت تقول له: واش بك داير في روحك حالة؟ لكنها عدلت عن الفكرة. فطلب يدها من جديد وقال إنه مستعد أن يقبل بها كما هي، وأن ينسى كل الماضي القاسي بينهما. كما هي؟ أي ماضي أصلا؟ لم يكن مخه أحسن من مخ شارلي الذي أنقذته الفياغرا من الجنون. كان وجه ميشكين أصفر مثل الليمونة. وكان طيبا إلى درجة السذاجة والحماقة. عندما رأته لأول مرة بعد عودته، لم تستطع كتم ضحكاتها الانفجارية. كان رديفا في كل شيء لميشكين، الذي بعد أن قضى جزءا من شبابه في سناتوريوم في سويسرا، بسبب مرض الصرع، عاد إلى روسيا باحثا عن مكانة في مجتمعها المغلق. وجد نفسه فجأة تحت جناحي معشوقته ومرضه، ناستاسيا فيليبوفنا التي فتحت أمامه أبواب الحياة، قبل أن تتركه وتهرب مع تاجر غني، روغوجين ويلتفت هو نحو المعشوقة البديلة آغلايا إيفانوفنا ولكن حب ناستاسيا سجنه إلى الأبد. يترك آغلايا إيفانوفنا ويعود إلى ناستاسيا التي تهرب من جديد مع روغوجين الذي ينتهي إلى قتلها، ويعود الأمير ميشكين إلى صرعه.
حبيبي الذي فرضته عليَّ أمي عاد إلى صرعه أيضا.
كان من الصعب عليَّ أن لا أرى في ذلك المسكين صورة الأبله، وأن لا أرى في نفسي صورة ناستاسيا الخائفة من أن يقتلها حبيبها يمجرد أن يفتح عينيه من مرضه.
صمم فاوست أن يظل افتراضيا إلى آخر لحظة. مجرد صورة أو علامة خضراء في الزاوية اليمنى من الصفحة، تأتي ثم تنطفئ. حتى في الشهوة، كانت اللغة هي جنوني الحرّ. مارسنا لذّتنا ذهنيا عن بعد. كان خيالي هو منقذي الثاني لدرجة المرض، لأنه لولاه لاحترق كل شيء فيًّ، ولذبلت كل حواسي الحية. الجنس الافتراضي باللغة، ربما كان ابتكارا عصريا خطيرا؟
في الثامنة إلا ربع مساء، قبل نشرة الأخبار بقليل، أغلقت كل ستائر الصالون المطل على الجسر والمعبر المؤدي له. لم أعرف لماذا فعلت ذلك بالضبط. وجلست وراء الشاشة أرقب الحدث. مرت صور السفراء الذين زاروا الصحراء في رحلة سياحية مدفوعة الثمن من الدولة، وكلهم كانوا يرددون الكلام نفسه: البلاد بخير. تعالوا زوروا الصحراء. مكان سياحي خلاب. لم أكن غبية إلى القدر الذي أصدق فيه أن الأمريكان سيأتون ركضا إلى بلادنا ولا الأوروبيين بمجرد سماع خبر أجوف مثل هذا؟ من يسمعه أصلا، في قناة لا يراها حتى سكان الأحياء الذين اجتهدوا في التقاط القنوات العربية القوية بواسطة أواني الطبخ المصنوعة من الألمنيوم.
أخيرا جاء فاوست في الأخبار الثقافية. رأيته. قال مذيع نشرة الأخبار، وهو يلملم كلماته بصعوبة من شدة حماسه: ها هي أرض الشهداء ومهبط الوحي والأنبياء، وأرض الخير والماء والتسامح تستعيد أبناءها من منافيهم ليسدل الستار نهائيا على المأساة الوطنية، وتنفتح الآمال على مصراعيها. إن الوطن غفور رحيم. وهو ما بيَّنه وأظهره على الملأ، على مدار سنوات المأساة الوطنية. الوطن هنا، ولن يسألهم اين كانوا؟ ماذا فعلوا؟ ولا لماذا خرجوا؟ المهم أنهم عادوا ممتلئين ينوره(بنوره)…
بُثَّ بعدها مباشرة مشهد الوصول بكامله على شاشة التليفزيون الذي خصص له صفحة جميلة نُقلت إلى الفيسبوك في اللحظة نفسها تقريبا. قالت المعلقة جملة بقيت مرتسمة طويلا في دماغي: ها هو الابن الضال يعود اليوم إلى وطنه. إلى أرضه التي منحته الحياة، ومنحها مسرحا كبيرا دافع فيه عن النور الذي كان يتجلى من الوطن حتى في أحلك الظروف. كدت أصرخ أيّ نور؟ وحق ربي إنهم يعيشون في قارة من الكلمات واللامعنى. متأكدة من أن لا أحد أجبرها على ذلك الحشو، الأخطر هو أن يقول المذيع ما يريده المسؤول بدون أن يجبره هذا الأخير على ذلك. عندما ابتسمت صاحبة الريبورتاج ابسامة الخاتمة، قبل الانسحاب، رأيت في عينيها فجأة وبشكل غريب، صورة طبق الأصل للأخ الأكبر، البيغ بروذر بكل سلطانه وقوته وهدوئه العاصف، وابتسامته المليئة بالأسرار والخبث، يؤدي رقصة الانتصار.
عدت لوصوله العشرات من المرات تلك الليلة على اليوتوب. وعلى رابط الفيسبوك الذي توزعه المعجبون بسرعة كبيرة. كانت لحظات الوصول تمر كأنها بالتصوير البطيء. عندما غادر الطائرة تحت محركاتها التي لم تتوقف، بدا ذلك واضحا من شعره الذي تبعثر عاليا، ومعطفه الذي تعالى قليلا في فتحاته الخلفية. ثم عندما تقدمت منه طفلة صغيرة عند مدخل القاعة الشرفية وفي يدها باقة من الورود. سلم على رأسها ثم سلم الباقة لامرأة تبدو أجنبية كانت تسير خلفه. ثم أخذ تمرة من الطبق الذي قدمته له طفلة أخرى بشرائط حمر، وشرب قليلا من الحليب. لا أدري لماذا تذكرت آخر رئيس لهذه البلاد، انتخب ديمقراطيا وقتل مباشرة، في عز الحرب الأهلية، بعدما دشن جسر العشاق. هو أيضا أخذ الورد وأكل التمر وشرب الحليب قبل أن يقتله الذين رحبوا به في المطار. الصورة الثالثة وهو يركب سيارة المرسيدس المضادة للرصاص، باتجاه نزل شيراتون ليرتاح. كان شيء من الانتشاء يظهر في عينيه وهو يعانق وزير الثقافة والسياحة. الرجل ذو الحقيبتين، أو كما يسميه المثقفون والصحفيونL’homme au deux casquettes. هذه المرة هو مدعو دعوة رسمية من الوزارة للالتقاء بمعجبيه الذين عشقوه جدا وامتلأ هو بهم بقوة، كما يقول. الكثير من هذه الصور نفسها نشرتها جريدة الأمة. كانت كل المقالات ملونة بالمديح وروح الوطن العالية الذي يعرف كيف يغفر لأبنائه عند الحاجة الماسة.
قال مذيع الأخبار وهو يختم هذه الصفحة الخاصة: ها هي أرض الشهداء ومهبط الوحي والأنبياء، وأرض الخير والماء، تستعيد أبناءها من منافيهم ليسدل الستار نهائيا عن المأساة الوطنية.
كنت ممددة في فراشي، أتأمل الفراغ ووجهي بابا زوربا وفيرجي في صورة هربتها من حرائق أمي التي تجسد عرسهما. كم كانا جميلين. صعب عليّ اختصار حزني ودمعي. فجأة رأيت كلماته تتسابق وتنزل كالظلال على قلبي. استغربت كيف يذهب ويجيء مثل الرياح الاستوائية، بدون إي إنذار.
– حبيبتي هل أنت هنا. أنا على مسافة قبلة منك.
– شكرا يا غالي.
– تبدين حزينة.
– لا أبدا. الحمد لله على سلامتك.
كان ينخر قلبي شيء غامض ومبهم. شيء هو بين الحزن والخوف والفرح المرتبك الذي لا يكاد يصدق ما رآه وما يحسه. فاوست على بعد قبلة؟ إذن ما الذي يمنع من أن نجعلها قبلة حقيقية؟ كيف كان الفرسان في العصور الغابرة يمتطون الفيافي فقط لرؤية المرأة التي أحبوها، متحملين كل مخاطر الموت.
– أنا هنا ؟ هل رأيت حفل الاستقبال.
– نعم حضره الكثير من الفنانين والكتاب.
– كان مدهشا. هناك أصدقاء لم أرهم منذ أكثر من عقد.
– طبعا ممنوع على الفرماسيانة أن تحضر لتكون من مستقبلي حبيبها؟
– لا يا غالية. لست أنا من اختار القائمة. قلت لك كنت خائفا عليك. ولا أريدك أن تصبحي مرئية أمام الجميع؟ لا أدري ماذا يخبئه لي قدري؟
– ما هو شعورك وأنت تنزل على أرض الوطن معززا مكرما، وهذه الحملة الكبيرة التي سبقت مجيئك. لم يفعلوا هذا مع أيّ من المثقفين، من الذين عادوا بعد سنوات المنفى. قلت لك في المرة الماضية، يمكن أن تكون الدولة نفسها ميفيستوفيليس.
– هههههه. نظرية المؤامرة. الدولة لا تفعل شيئا ولكنها تكفِّر عن بعض ذنوبها لا أكثر.
– كيف؟
– لقد تركت الكثير من أبنائها يموتون، وكان بإمكانها إنقاذهم.
– وهل كانتْ الدولة موجودة أصلا؟
– كيف بقي المجتمع حيا حتى اليوم ولم يخرب نهائيا؟ لابد أن تكون موجودة.
– الله يرحم اللي ماتوا. ارتح حبيبي وسأكون غدا من أولى الحاضرات للعرض المسرحي ولحفل توقيع الكتاب. ولو أنه عليَّ أن أقطع الجسر والمعابر المحروسة للوصول إليك ولكني سآتي. سآتي حبيبي، مهما كان الأمر، فقط لأراك وأشبع من وجهك.
عبثا انتظرت أن يقول أرجوك لا تأتي. الجسر خطير. سنبعث لك بسيارة لتأخذك من شمال المدينة، مثلا. أو آتي لآخذك معي. لكن شيئا من هذا لم يحدث. فقد كان فاوست تحت تأثير دوار جميل لم أكن موجودة فيه مطلقا. مرة أخرى انتابتني الرغبة في سؤاله عن شيء آخر كان يكبر فيَّ بشكل متسارع، ويتسع مثل الخلايا السرطانية.
– مازلت هنا حبيبي؟
– نعم. لا يمكن أن أشبع منك على الرغم من تعبي وقلقي.
– لا تغضب مني. انا أحبك بالشكل الذي لم يعد يحميني من الجنون. ألم يكن من الأفضل أن تعود بصمت كما فعل الكثيرون؟ ما دمت قد قررت رسميا العودة إلى أرض الوطن؟
صمت قليلا. خمنت اللغة التي خرجت من فمه بسرعة وخبأها: واش بربها؟ فرمسيانة تعلمني ما يجب عليَّ فعله. عليها أن تعرف حدودها. انتظرت ردة فعل عنيفة، لكن ذلك لم يدر إلا في خلايا رأسي المتعبة والقلقة من شيء غامض كان ينبت عميقا فيها.
– من يغضب من حبيبته ليس حبيبا حقيقيا، ولا يستحق هذه التسمية. أنا رجل قضيت حياتي كلها بين المسرحيات إخراجا وكتابة. عالمي كله تراجيدي. هذا مسلكي الذي اخترته. لست معنيا بالدعاية طبعا. لكن جيد أن تعتذر الدولة بطريقتها لأبنائها.
– وهل تظن أن الدولة تعتذر؟
رد بيقين لم يبد من ورائه أي ارتباك.
– نعم. ويجب عليها أن تفعل ذلك لكل أبنائها الذين لم تعرف كيف تضمّهم إلى صدرها.
واصلت أسئلتي القلقة:
– ألا تخاف على نفسك من مصير غارسيا لوركا الذي خصصت لدمه هذه المسرحية، مثلا؟
– الفاشية انتهت. ذهبت مع الحرب الأهلية.
– ألا تخاف من فاشية ثانية تولد الآن في خضم الحرب الصامتة؟
– لا أعتقد. الدولة ساهرة على كل شيء. سنوات الحرب استنفذت كلّ الناس، الجيدين والسيئين. القتلة والمقتولين، المجرمين والبريئين. ياما… الناس تعبوا كثيرا. يظهر ذلك بوضوح على وجوههم. لعنة غرناطة كناية ضدّ كل الجرائم التي ارتُكِبت، وتُرتكب ضد الإنسانية.
– معك حق. الناس مرهقون.
كدت أردد عليه نفس جملتي السابقة: الدولة هي مفيستوفيليس. سيأكلك. وقبل ذلك سيشتري منك روحك إذا لم يكن قد فعل ذلك؟ ولكني تراجعت ولم أرِد أن أكسر فرحته. كنت أشعر بعمق سعادته وعطشه.
– سعيدة من أجلك حبيبي. سعيدة جدا. أنت تحب المسرح التراجيدي اليوناني، وها أنت على ما يبدو، في عمقه تماما. أتمنى أن أتمكن من رؤيتها غدا. لقد كتبت الصحافة الوطنية والدولية كثيرا عن لعنة غرناطة. أنا سعيدة من أجلك. تستاهل كل الخير يا قلبي.
– لعنة غرناطة أخذت مني جهدا مضنيا. يجب أن تأتي. ستعجبك المسرحية كثيرا. تستند بقوة إلى الحرب الأهلية بإسبانيا في 1936. كان غارسيا لوركا جمهوريا فذا ومثليا معلنا وهي أسباب كافية لأن تجعل من الفرانكوية عدوا لدودا له.
– طبعا سأكون. لا أتخيل نفسي خارج عالمك المدهش.
– تبدأ من اللحظة التي اشتعلت فيها غرناطة مع أنها كانت بعيدة عن النار نسبيا. بالضبط في 16 أوت حينما وصل إليها راموس لويس ألونسو من الكتائب الفرانكوية الذي يفتخر بأنه كان من وراء توقيف الشاعر الأحمر. ثلاثة أيام بعد توقيفه أُعدِم بلا محاكمة، ثم رُمي في المنحدر هو وثلاثة آخرون ينتمون إلى الحركة الفوضوية، في مكان غير معروف حتى اليوم.
– احتجتَ إلى جهد كبير حبيبي، وإلى معلومات تاريخية كثيرة؟
– استعنت كثيرا بتصوير أنطونيو مونيوز مولينا الذي يصفه وهو يمشي ليلا في شوارع غرناطة الخالية بين فرقة المليشيات المكونة من ماريانو مورينو رئيس الفيلق، خوان خمينيث كاسكاليث، فرناندو كورّيرا كاراسكو، سالفادور فارو ليفا وأنطونيو هرناندث مارتن، وأنطونيو بنافيدس من زمرة آلبا الحاقدين عليه. أنطونيو بنافيدس يفتخر بأنه هو من أسكن في رأس لوركا رصاصتين. كانت الساعة تشير إلى الرابعة صباحا حينما قتلوه بالقرب من مزرعة كورتيخو دي غاثباتشو. قبره يظل إلى اليوم لغزا.
– هكذا لم تترك لي متعة اكتشاف المسرحية هههههه
– لا تشغلي بالك حبيبتي. المسرحية شيء آخر. تعالي فقط.
– سأفعل حبيبي. سأفعل.اشتريت بطاقة بواسطة الانترنت. لم أحصل على مكان جميل لكن المهم أن أفرح معك. نوم الهناء يا روحي. أنت متعب جدا. ارتح قليلا.
– ليلتك دافئة. أحبك.
– وأنا أيضا. 
عندما مددت رأسي على الفراش لا أدري لماذا شعرت بحزن عميق. لم أر شيئا سوى صور وإعلانات مسرحية لعنة غرناطة التي كانت تملأ كل الواجهات، دور الثقافة، الأحياء الجامعية، الباصات، الميترو، الترام، وبعض التكاسي الخاصة. وصلت الدعاية حتى خراب كاتدرائية أمنا مريم المجدلية. استغربت أنه لم يُمزق أي إعلان مما رأيت، كما تعود الناس أن يفعلوا كلما تعلّق الأمر بشيء مرتبط بالدولة، أو بأية مؤسسة رسمية. ربما شعر الجميع بأن فاوست رجل طيب وقريب من همومهم، ولا يحمل إلا طيبته وعفويته الطفولية وحبه لوطنه وأرضه وناسه؟ ربما؟
عدت من جديد إلى سهوي وارتشاق عيني في السقف الأبيض، وفي صورة زواج أمي وأبي الجميلة التي لم أكتشف سحرها الغريب إلا متأخرة. أغمضت عينيّ. رأيت تلك الصورة بالضبط وأنا برفقة أمي وأبي في مدينة أوروبية ربما كانت فيينّا التي كان يذهب لها بابا زوربا في مهامه المخبرية. كانا يمشيان في شوارع المدينة اليد في اليد مثل عاشقين في مقتبل العمر. ياااااه كم الدنيا قاسية. كيف يتغير الناس ويشيخ الحب مثلما تشيخ الوجوه المتعبة، وتشيح كل الأشياء الجميلة عنهم؟ المهم. لأنه لا فائدة من الحزن الشقي. المهم أني رأيتهما يومها يضحكان بسعادة كبيرة، لا شيء يسع فرحتهما. كان ذلك قبل زمن طويل من تعرف بابا زوربا على السيدة اليابانية أمايا شيساتو وابنتها أو ابنتيهما؟ يونا آييكو. الشكوك التي نسفت بكل شيء وجعلت أمي تبتعد عن والدي نهائيا، غيرت حتى مناخ البيت ونظرات الأبناء. أبي كان جميلا وقاسيا مع أمي،ولكن من الصعب عليّ أن ألومه في حبه للحياة. تمنيت فقط من فاوست أن يكون بسخائه. السخي يخون بحب لهذا أبحث له عن كل أعذار الدنيا. أو هكذا يبدو لي.
أغمضت عينيّ على وجهي فريجة وزبير المشرقين. كما بديا قريبين. أصابني فجأة دفء وحنين كبيران.
نمت بسرعة كأنها دوخة، في حضنيهما.
تعب المائة متر الأخيرة كان قاسيا عليَّ

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *