* زياد خداش
عشرات المرات فكرت جدّياً في مغادرة عالم الـ«فيس بوك»، عشرات المرات تخلّيت بإصرار عن هذه الفكرة، عشرات المرات وقفت على باب بيتي الـ«فيس بوكي» مصمماً على عدم الدخول، ومرعوباً في الوقت ذاته من المغادرة، أتخيل مؤرخاً سيأتي بعد 1000 سنة يصف عصرنا هذا بعصر الـ«فيس بوك»، أتخيله يكتب: «الـ(فيس بوك) واسطة إعلامية اجتماعية ظهرت في أميركا أولاً كموقع شخصي ـ جامعي، ثم انتشرت بشكل جنوني في أنحاء العالم، لتصبح وجه العالم، وسره وعلنه، توتره وإبداعه، خرافته وعقله». ما الذي في الـ«فيس بوك» يجعلنا نحن الأدباء متوترين حيناً وراضين حيناً آخر؟ ما الذي فيه يغضب، وما الذي فيه يريح؟ ما الذي يخجل ويعيب، وما الذي يضيء ويُسعد؟
كل يوم أراقب نفسي على الـ«فيس بوك»، كل ليلة أجلد روحي، وأهنئها: متى أقع في نقاش مع شخص سخيف لم يقرأ في حياته سوى كتاب واحد؟ متى أتورط في التخلي عن جزيرتي الأثيرة، جزيرة «ربما»، وأنخرط في التشنج والانفعال والشتائم والصراخ والتأكيدات؟ متى أجعل أو أرفض أن أجعل من علاقة عاطفية «فيس بوكية» حاجزاً أمام نموي العقلي واتساع أفقي؟ متى أكون عظيماً وأترفع عن الرضى الكامل عن نفسي، وأعجب بنصوص كتبها أشخاص لا أحبهم شخصياً؟ متى أسخر من نفسي، لأنها سقطت في سهولة الغزل العادي؟ متى أكون جميلاً وأحتفل بالنقد غير التجريحي، الذي يكشف هبلي اللغوي وسطحية معانيّ وركاكة صوري؟ ومتى خجلتُ من صديق لي كتب نصاً ضعيفاً فأبديت إعجابي به؟ متى أكون نبيهاً وقوياً فلا أسمح لمديح مفرط، إنشائي النبرة وبليغ الكلمات، بأن يصنع تاريخاً ناصعاً لليلتي؟ ومتى أفخر بأني قبلت بسعة صدر وقلب رأياً كارهاً وعميقاً وذكياً وهادئاً من شخص لا أعرفه، متى أضع «لايكاً» تحت صورة بنت جميلة لأستدرجها الى بيتي «الفيس بوكي»، متى أكون رائعاً فأرفض مقايضة إعجابي بنص ضعيف «كتبته امرأة جميلة» بغنجها الـ«فيس بوكي»؟ متى أنجح وأبتعد عن الـ«فيس بوك» لأيام وأطير الى أفلام أو كتب طويلة القامة؟
علينا أن نعترف: معظمنا نحن ـ الفنانين والأدباء ـ تورطنا في عيوب «فيس بوكية»، وكلنا ارتفعنا عن هذه العيوب وقهرناها ثم عدنا إليها تحت ضغوط إغوائها، ننجح حيناً ونفشل حيناً، راقبوا أنفسكم: ما إن يكتب لنا شخص ما إحدى هذه الكلمات: «رائع جميل، الله، مدهش» تحت نصوصنا، حتى نفرح، فنصافح «لايكه»، بـ«لايك» آخر، وننسى أننا أنفسنا من تذمرنا سابقاً من هذه الكلمات السريعة والسهلة. قدرنا أن نحتار ولا نستطيع أن نحسم، نقف خلف الباب ضائعين، نعرف أن في الداخل حباً وافراً وإعجاباً كثيراً مرمياً في الطرقات كالمعاني، ونعرف أيضا أن خلف معظم هذا النوع من الحب ضياع للوقت وفراغ ثقافي، وهدر للطاقات الإبداعية وتعكير لصفاء العزلة الحلوة، هكذا نظن في البداية لكن ما إن ندخل بيوتنا الـ«فيس بوكية»، ونغلق خلفنا الأبواب والنوافذ، وننشغل بالكتابة ونغرق بالصمت حتى نتعب، ونئن مثل الذئاب من العزلة، فنحنّ إلى كلمة حب وعبارة حنان، فنفتح الباب والنوافذ فينهمر الحب مدراراً، فنتذمر مثل الأطفال من كثافة هذا الحب وكثرته وسهولته وخطورته على كرامة أثاث بيوتنا، فننكفئ على أنفسنا مرة أخرى.
وهكذا تمضي حياتنا: كراهية شديدة لـ«الفيس»، ورفضاً حاداً له، ثم حاجة ماسة وحباً هادراً له.
______
* أديب من فلسطين(الإمارات اليوم)