سؤال الذات وانبثاق المعنى


*إحسان الطيطي

قبل إلقاء الضوء على الحياة الفكرية للفيلسوف الفرنسي الكبير بول ريكور، لا بد من الالتفات إلى أهمية الجسر الثقافي الذي أقامه المفكرون والمترجمون من شمال إفريقيا أو المغرب العربي بين الثقافتين الغربية والعربية، خصوصا أن مترجم السيرة الفكرية لبول ريكور هو المترجم الشمال إفريقي فؤاد مليت الذي أنجز الترجمة في الجزائر العام 2005.

في ما مضى، وبالتحديد في نهاية الدورة الحضارية للثقافة العربية الإسلامية وبداية دورة حضارية جديدة للثقافة الغربية، تسربت منجزات ثقافتنا إلى الغرب عبر مسامات المجتمع الأندلسي ونفذت إليه، فالخطوط الساخنة التي تفصل الحضارات بعضها عن بعض، وأحيانا تشهد تصادمها، تكون في أحايين كثيرة بمثابة غشاء نفاذ تعبر منه وتفد إليه مكونات كلا الحضارتين المتجاورتين والمتفاعلتين في الآن نفسه. 
فكما شهدت الأفكار نزوحا في ما مضى باتجاه الغرب، تشهد الأفكار الخاصة بالحضارة الغربية عملية عودة إلى الشرق مرة أخرى عبر وسطاء مهمين هم أبناء المغرب العربي.
فالتاريخ في قابل أيامه على سبيل المثال، لن يستطيع التعتيم على مفكر كبير كمحمد عابد الجابري؛ الذي هضم أفكار الغرب وحاول تبيئتها في الثقافة العربية والإسلامية، وستظل دراساته الفذة والمهمة علامة فارقة للتفاعل المتبادَل بين الحضارتين. 
هناك كثير من المفكرين والمترجمين الذين نقلوا إلينا منجزات الحضارة الغربية الفكرية والفلسفية بكفاءة وحرفية عالية، استفادوا عبر امتلاك لغة المستعمِر (ورب ضارة نافعة) في نقل نفائس الأفكار والآداب الغربية إلينا؛ فحطموا بذلك الحاجزَ اللغوي وأقاموا جسور التواصل، وفي ذلك من الفائدة ما فيه؛ لأن أي نهضة لحضارة طال عهدها بسبات عميق لا يمكن أن تتم إلا عبر تجديد الأفكار والهياكل الحضارية، وذلك بمساعدة أفكار وافدة من حضارة أخرى نضرة يتم التلاقح بينهما فيَحدث التخصيب وتنطلق الحضارة «المتخلفة» في نفض غبار القرون وتجديد النسغ الذي يمدها بالحياة. 
هذا ما حصل للحضارة الغربية في بداية عصر التنوير عندما اطلع الرواد على كنوز الحضارتين اليونانية والإسلامية، فحطموا أصنامهم وانفلتوا من القيود التي تقيدهم نحو مستقبل واعد، وهذا ما يجب علينا أن نفعله كي نحطم أصنامنا وننفلت من الأصفاد التي تكبلنا.
***
بول ريكور (1913-2005) فيلسوف فرنسي نذر نفسه للفلسفة بعد تخرجه حاملا شهادة فيها، ويُعدّ من أهم الفلاسفة المتأخرين الذين أمدتنا بهم الحضارة الغربية في غسقها؛ فالغرب يعيش في حاضر مليء بالأزمات والآفاق المسدودة وهذا من شأنه أن يفرز حالة من العقم الفكري يندر من خلالها خروج مفكرين وفلاسفة أصحاب مشاريع كبرى ورؤى فلسفية عميقة وشاملة كالتي أمدتنا بها الحضارة الغربية في نصف نهارها الأول!
الفيلسوف كائن مكتنز بالمعرفة، حياته ملخص لحيوات معرفية سبقته أو عاصرته، فعقله يقتات على منتجات عقول كثيرة قام بهضمها وتمثلها، ومن ثم إخراج منتج معرفي يحمل بصمته الخاصة، فيضيف بذلك لبنة معرفية إلى جدار المعرفة البشري العظيم. فبول ريكور كما يصف نفسه، كان «تلميذا نجيبا»، وفوق ذلك ذا فكر متطلع قلق؛ إذ كان فضوله الفكري ناجما عن «ثقافة كُتبية مبكرة»، وبهذا يكون قد اشتبك مع قضايا فلسفية متنوعة وتأثر بفلاسفة ومفكرين ذكر منهم الكثيرين في سيرته الذاتية.
ومن البداهة أن الذين تأثر بهم بشكل غير مباشر يكون تأثيرهم عميقا وأصيلا؛ لأن المعرفة التي نهلها منهم ترسبت في لاوعيه وأصبحت جزءا أصيلا من مخزونه المعرفي. أما المعرفة الواعية التي يتأثر بها الكائن المفكر بتأثير مباشر من غيره، فتبقى منفصلة عن مخزونه المعرفي الأصيل ولا تدخل كمكون أساس في إنتاجه الفكري الخاص.
بول ريكور –كغيره-؛ حياةٌ واحدة دخلت في تكوينها حيواتٌ كثيرة، وعمره مجموعُ أعمار كثيرة استفاد من تجاربها ومنجزاتها المهمة.
التكوين
بدأت صدمة الوعي لبول ريكور مبكراً حين كان في السابعة عشرة من عمره، بتأثير من أستاذه «رولان دالبيز» الذي كان لنصيحته الأثر الأكبر في حياة ريكور بحيث لم تبارح فكره قط. تقول نصيحة «دالبيز»: «إذا أربككم مشكل ما، وسامكن الجزع والخوف، فلا تداروه مواربةً، ولكن تصدوا له مجابهةً». 
هناك من المواقف أو الأحداث أو الكلمات ما يكون لها الأثر الأقوى في ذواتنا في ما بعد، إذ تُحدث تحولا في رؤيتنا للعالم وللأفكار، فننفتح على آفاق جديدة ومبتكرة. وقد كان لِيُتْم ريكور المبكر وحياة الشظف التي عاش في كنفها وفضائع الحرب الأولى وما تضمنته معاهدة فرساي من جور إلى جانب سقوط والده قتيلا على الجبهة (1915)، الأثر الأكبر في شعوره القوي بالظلم الاجتماعي، والانسياق بكليته إلى الرسم والقراءة في فترة كانت فيها وسائل الترفيه شحيحة وغير متطورة، ولم تكن وسائل الإعلام في وضع يسمح لها بتسلية الشبيبة. 
يصف ريكور شغفه بالقراءة بقوله: «بلغ بي الانشداد إلى ذلك التعليم حدّا جعلني ألتهم المقررات والكتب التي كان ينصح بها أساتذتنا التهاما ولمّا يحل الموسم الدراسي بعد».
وبتأثير من نشأته البروتستانتية، تعمّق لديه الحس النقدي الذي أثْرته قراءاته الفلسفية الشغوفة، وحصوله على الإجازة في الفلسفة سنة 1933، وعلى شهادة الأستاذية فيها سنة 1934، وأخذ يتعمق بدراساته الفلسفية بقراءاته الخاصة وعن طريق تأثره العميق بأساتذته في «السوربون» مثل «ليون روبان» و «إميل بريهييه». وفي تلك الفترة لفتت نظره مشكلة فلسفية قديمة ومتجددة، هي العلاقة بين العقل والإيمان، وكانت مفاجأته بوجود مكان للإله في الفلسفة العقلية أمرا يبهجه كثيرا.
كان العام 1935 فاصلا في حياة ريكور، فقد تزوج رفيقة صباه التي قاسمته التزاماته، وانخرط في الحياة المهنية بعد نيله شهادة الدكتوراه، ثم تجند في الحرب كمدني ثم كمحارب فقاده ذلك إلى الأسر؛ وكان لحياة الأسر أثر كبير فيه على الصعيد الإنساني، فقد تقاسم الحياة مع آلاف الرجال وانعقدت أواصر الصداقة مع العديد منهم، وأتاحت له حياة المعتقل فرصة القراءة المطردة للكتب المتاحة. لقد كانت تلك التجربة «مثمرة جدا» على الصعيدين الإنساني والفكري.
ثم تعرف ريكور إلى «فينومينولوجية هوسرل» التي نفذت كما يقول إلى فرنسا عبر فكرة «القصدية» التي حاولت أن تميز بين الوعي والوعي الذاتي بعد الذي كان من تطابقهما في التصور الديكارتي، وبتأثير من «إيمانويل مونييه» وكتابه «الثورة»، استفاد ريكور في ربط قناعاته الروحية بمواقف سياسية جاورت دراسته الجامعية حين انخرط في حركات الشباب البروتستانتي.
تعلم ريكور الألمانية قبل الحرب الكونية الثانية بأربع سنوات، وواصل قراءة «هوسرل»، ومؤلَّف هيدغر «الكينونة والزمان»، وقرأ كتاب «الفلسفة» بأجزائه الثلاث ل «كارل ياسبرس».
لقد كان لكتاب «ميرلوبونتي» المسمّى «فينومينولوجيا الإدراك الحسي» الأثر الحاسم في ريكور في مرحلة ما بعد الاعتقال، وبالمقابل فقد كان لمؤلَّف «سارتر» المسمّى «الوجود والعدم» تاثيرا باهتا فيه، كما تأثر ب «جبرائيل مارسيل» واصفا ذلك بقوله: «إذا كنت مدينا ل (هوسرل) بمنهجية التحليل الماهوي، فأنا مدين ل (مارسيل) بإشكالية الذات المتجسدة، والقادرة في الآن نفسه على التحرر من رغباتها وقواها.. الذات المالكة أمر نفسها والخاضعة لهذه الضرورة الممثلة في الطبع واللاوعي والحياة».
عمل ريكور محاضرا في تاريخ الفلسفة بجامعة «ستراسبورغ» في الفترة (1948-1957) التي عدّها ريكور أسعد اطوار حياته العملية في الجامعة، فقد وقف نفسه على تدريس طلبته في كل موسم جامعي فيلسوفا. وما حصّله في ما بعد من رصيد أكاديمي يتصل بالفلسفة الإغريقية والحديثة المعاصرة، يرجع إلى تلك الفترة الغنية من حياته التي تعمقت فيها صداقته مع قمم فكرية من مثل «روجي ميل»، و «بيير بورجيلين»، و «جورج دوفو»، و «مارسيل دافيد».
بعد تلك التجربة الغنية في التعليم التي عادت عليه وعلى طلبته بالفائدة، عُيّن ريكور في «السوربون» أستاذا للفلسفة. وواصل أبحاثه، خاصة بما يتعلق بالهرمينوطيقا، بعد أن اغتنى بتعرفه على «فينومينولوجيا الدين» لدى «مرسيا إلياد» وخاصة في مؤلفه المعروف «تاريخ الأديان المقارن». فقد استفاد ريكور من تصوره الذي يرى في الرمز بنية أساسية للخطاب الديني. وعمق هذا المنحى في تفكيره بالتعرف على بنيوية «كلود ليفي شتراوس»، الخارج من دائرة المتخصصين إلى سواد الجمهور.
وفي الفترة الممتدة إلى 1965، أي مرحلة التدريس في السربون، قام ريكور بقراءة تكاد تكون تامة لأعمال «فرويد»، وتبين له حينها أن عمل «فرويد» إنما هو هرمينوطيقا مضادة لما أجراه في «رمزية الشر» التي باشرها «فرويد» في مؤلفه «تأويل الأحلام».
لقد كان لبعض اللاهوتيين تأثير في ريكور، ومن هؤلاء: «بولتمان» و «إبلينع» و «بونهوفر» و «مولتمان»؛ حيث أدى هذا التأثير إلى الانشغال برمزية الشر، وبتعبيرات اللغة الدينية المتنوعة في ما يتجاوز المسألة الخاصة للرمز والأسطورة، وقاده ذلك إلى استعادة مقياس تنوع أشكال اللغة المستخدمة من طرف الإيمان التوراتي وأنظمة اللاهوت الناجمة عنه.
أثناء تدريسه في الجامعات الكندية ومن ثم الأميركية، وجد ريكور الفرصة التي مكنته من الاتصال بالفلسفة التحليلية؛ وهي الفلسفة التي تعد المنافس اللامشروط للفينومينولوجيا وللهرمينوطيقا، ووجد فيها المكمل للدلاليات المنطقية بالاستناد إلى الدلاليات اللسانية التي كان يدين لها في تصوره عن الخطاب.
لقد كان ل «ثورة بودابست» وما أثارته مسألة «الدولة والعنف»، أن دفعت ريكور لولوج ميدان الفلسفة السياسية، وليس من باب المصادفة أن تكون دراسته عن مؤلَّف «نابير» المسمى «بحث في مسألة الشر» في الفترة نفسها تقريبا.
وبعدها يروح ذهابا وإيابا مع الأفكار ليعود إلى بؤرة اهتمامه، فينشغل بالهرمينوطيقا ما بعد الهيدغرية ويقابلها بالمثالية الهوسرلية، وبفضل الإحالة على هذا الخصام الكبير الذي يجسد في الوقت نفسه مسارا طويلا، يتحرر من التصور الأول للهرمينوطيقا بوصفها تأويلا موسعا للعبارات الرمزية، نحو صياغة فكرة عن فهم ذاتي يتوسط العلامات والرموز والنصوص.
وعلى هذا، فإن ذات القارئ ليست هي الأولى بالتحكم في معنى النص من ذات صاحبه. فالاستقلالية الدلالية للنص متكافئة في كلتا الجهتين؛ وأن يفهم القارئ ذاته معناه أن يفهم ذاته بإزاء النص وأن يتلقى منه شرائط انبتاق ذات هي غير أناه التي تُظهرها القراءة. 
وفي الأسابيع الغنية بالفكر التي قضاها ريكور في أدنبره وأسكتلندا؛ وبعيد عودته وخلال زيارته لبراغ، حلت عليه مصيبة كالصاعقة فصدعت حياته كلها. إنها انتحار رابع أبنائه، ما دفعه إلى العيش في حداد دائم. ولقد نظر إلى فعل ابنه الانتحاري رغم الألم الذي تركه، على أنه فعل ينبغي أن يمجَّد بوصفه فعلا إراديا. بعد ذلك أصيب بفقد صديقه «مرسيا إلياد» الذي لازمه كثيرا وشاركه التدريس في المدرسة اللاهوتية بجامعة شيكاغو. وقد حفزته هذه الفاجعات لأن يحكم صياغة المعضلات التي يثيرها الشر-الألم.
الإنجاز
نظرا لتعلم ريكور اللغة الألمانية وإعجابه بالفكر الألماني، وخاصة «هيدغر» و «ياسبرس»، أثمرت دراسته الدقيقة لأعمال «ياسبرس» الكتابَ الذي اشترك في تأليفه مع «دوفرين» بعنوان «كارل ياسبرس وفلسفة الوجود»، ثم أضاف له في ما بعد كتابا في الفلسفة المقارنة عنوانه «جبرائيل مارسيل وكارل ياسبرس.. فلسفة السر وفلسفة المفارقة». ثم شرع ريكور في ترجمة مؤلف هوسرل «الأفكار»، وأنجز في تلك المرحلة أبحاثا وكتبا عدة تدور حول مواضيع فينومينولوجية، ثم قدم أطروحته للدكتوراه «الإرادي واللاإرادي»، وحاضر حول هذا الموضوع في الجمعية الفرنسية للفلسفة، وبعد تعيينه في «السوربون» مدرسا أخرج تتمة «الإرادي واللاإرادي» في جزأَي «التناهي والإثم» المنشورين في العام 1960. في الجزء الأول المعنون ب «الإنسان الخطاء» الذي ترجمه إلى العربية عدنان نجيب الدين (2003)، يحاول ريكور الكشف عن الهشاشة الإنسانية، ومبدأ اللاعصمة، محللاً ضعف الكائن البشري المعرض للشر وإمكانية اقترافه، إلا أن هذا الكائن ليس شريرا بالفعل. هذا الرؤية للانسان تذكّرنا بفكر «باسكالط، ويحاول ريكور أن يلمح إلى أن الطوية الفاسدة للإنسان الغربي ترجع في أحد إسبابها إلى الثقافات الكبرى المشكّلة للوعي الغربي الغنية بالقصص المتعلقة بمصدر الشر.
وفي الجزء الثاني من «التناهي والإثم»، قدم ريكور أول تعريف ل «الهرمينوطيقا»؛ حيث عدَّها طريقةً لفك الرموز من جهة أن هذه الأخيرة هي تعبيرات ذات معنى مزدوج يقود فيها المعنى الحرفي، أي الجاري على سنن الاستعمال الشائع، عمليةَ الكشف عن المعنى الثاني الذي رامه الرمز عبر المعنى الأول.
لقد عزز تواجد ريكور كمفكر هيرمينوطيقي، من مشاركته الفاعلة في المؤتمرات التي كان ينظمها بروما الفيلسوفُ الإيطالي المعاصر «إنريكو كاستيلي»، والتي شارك فيها ريكور ب: «هرمينوطيقا الرموز والتأويل الفلسفي» و «الهرمينوطيقا والتأمل» و «الرمزية والزمنية» و «التقنية واللاتقنية في التأويل» و «طرح الأسطرة عن التهمة».
ثم قام بقراءة نقدية لإنتاج «فرويد» وألف كتابا في التحليل النفسي لقي قبولا حسنا في البلاد الناطقة بالإنجليزية، وفتورا في فرنسا لتجنبه ذكر «لاكان» الذي تابع حلقاته الدراسية، ولهذا تجنب نشر أي شيء متعلق بالتحليل النفسي في فرنسا إلى العام 1982 حين شارك في المؤلف التكريمي ل «فيلنس» بعنوان: «ما الإنسان؟».
بالإضافة إلى التأليف والنشر، شارك ريكور في إنشاء جامعة جديدة بمدينة «نانتير» في الضاحية الغربية لباريس، وترأس قسم الآداب فيها على أمل أن يسمح حجم الجامعة بإرساء علاقات أقل فتورا بين الطلبة والأساتذة تحقيقا للفكرة القديمة عن مجتمع المعلم والتلاميذ. لكن هذه الجهود «المخلصة» لم تحل دون الثورة الطلابية التي اندلعت من «نانتير» تحديدا. ورأى ريكور أن فشله في الحيلولة دون اندلاع الثورة الطلابية ناتج عن الصراع الحاد بين إرادة الإصغاء لديه وتبجيله المفرط لنظام المؤسسة.
بعد ذلك بسنوات صدر كتابه «الاستعارة الحية» (1975) الذي كان متمخضا عن معالجة مشكلة مخصوصة من فلسفسة اللغة هي مشكلة الاستعارة، وتبع ذلك سيل من الدراسات تدور حول الاستعارة الكاشفة عن آفاق وأبعاد من العالم الواقعي أبقاها الخطاب المباشر متخفية. وأفضى ذلك إلى الولوج بعمق إلى قضية التأويل الكبرى؛ جدلية التفسير والفهم المنتشرة على مدار النص وأضحت تشكل الرهان الأكبر للهرمينوطيقا.
وفي العام 1984 فرغ من كتابه «الزمان الحكاية»، وعلى إثره لبى دعوة جامعة «أدنبرة» لإلقاء مجموعة محاضرات في إطار «قراءات جيفورد»، وذلك في العام 1986. ثم أخرج هذه القراءات في كتاب سماه «الذات كأنها الآخر»، وهو كتاب يختلف في نواحٍ كثيرة عن النص الأصلي لهذه المحاضرات.
السراب
يقول ريكور في آخر تأملاته: «لست بآسف على المنعرج اللأدري الذي يُلمَس في السطور الأخيرة، حيث أعلن أنني لا يمكنني أن أعين، من حيث أنا فيلسوف، مصدر نداء الضمير، أهو آتٍ من شخص آخر يمكنني الكشف عن وجهه لدى أجدادي لإله ميت أو للإله الحي، لكنه غائب عن حياتنا كالماضي بالنسبة إلى كل تاريخ معاد إنشاؤه، بل لمكان خاو؟».
هذا المصير اليباب هل هو المصير الحتمي للفلسفة بصورة عامة، أم للفيلسوف بول ريكور بصورة خاصة؟
الفلسفة هي السبيل الخطأ للوصول إلى اليقين الذي تستهدفه؛ فما هو نسبي من المستحيل عليه أن يبني ما هو مطلق، وما هو تفكيك عقلي يستحيل عليه أن يكتشف ما هو إلهام. لقد ضل العقل الفلسفي الطريق أمام تعدد السبل أمامه، فرجع القهقرى إلى مقولاته البسيطة، وبدأ يبحث في أنقاض الأديان التي هدمها لعله يجد ضالته التي أضناه البحث عنها. ربما هذا ما قصده ريكور في آخر ما جاء في تأملاته عندما ذكر الكتاب الصغير الصادر له باللغتين الألمانية والفرنسية «الحب والعدالة»؛ مشيرا إلى الوجهة التي ينبغي اتخاذها لرفع هذا التحدي. وأخيرا وجد في الشعور الأزلي للحب والعدالة طوق النجاة لهذا الواقع المتأزم ولتنظيراته المتأزمة ايضا.
عندما تتعقد الأفكار وتتراكب فإن الحقيقة ليست هناك، إنها هنا حيث البساطة والوحدة، فالحقيقة دائما بسيطة بساطة الحياة، وهي في الوقت نفسه عميقة عمق الحياة! وعندما يحاول الفلاسفة بجهد عقلي جبار وبلغة تقنية معقدة وغامضة أن يقولوا لنا ما تود المقولات البسيطة أن تقوله، لا يسعنا إلا أن نقول لهم ما قاله كهنة مصر لأهل أثينا: «أيها الفلاسفة.. لستم سوى أطفال»!.
__________
* الرأي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *