*فاضل السلطاني
قبل نحو عشر سنوات، رأيت تشينوا أتشيبي في العاصمة البريطانية. جاء على كرسيه المتحرك للمشاركة في مهرجان الشعر العالمي، الذي يعقد في العاصمة البريطانية كل عامين. ومن تقاليد هذا المهرجان، الذي أسسه الشاعر تيد هيوز، شاعر البلاط البريطاني، عام 1968، تقديم محاضرة باسم «محاضرة المهرجان»، يلقيها أحد الكتاب المعروفين عالميا، تكريما له، وليس بالضرورة أن يكون شاعرا، رغم أن أتشيبي أصدر مجموعات شعرية عدة، لكن لم يعامله أحد كشاعر. جاء أتشيبي على كرسيه المتحرك، فلم يبق أحد في القاعة الضخمة إلا وقف لهذا الرجل الذي كرس كل حياته وكتاباته للنضال ضد الكولونيالية الأوروبية، وخاصة الإنجليزية، وكأن هذا الجمهور يكفر عما اقترفه أجداده الأوائل المستعمرون من خطايا إنسانية كبرى.
من ينسى رواية أتشيبي الكبرى «الأشياء تتداعى»؟! هذه الرواية التي أصبحت رواية عربية بقدر ما هي رواية أفريقية صارت علامة مهمة فيما سمي «الأدب ما بعد الكولونيالية»، ليس فقط في أفريقيا، بل وفي العالم أيضا، وهي تدرس الآن في أغلب الجامعات الإنسانية، وخاصة في بريطانيا. في ذلك اللقاء، سأله الجمهور البريطاني عن الرواية، لكنه رفض الحديث. إنها، بالنسبة له، مجرد سرد لقضيته الكبرى: أفريقيا. لكن، في الحقيقة، هي روايته الوحيدة، التي ارتبطت به مثلما ارتبط بها، مثلما ارتبط الطيب صالح، مثلا، بـ«موسم الهجرة للشمال»، وسالنجر بـ«الحارس في حقل الشوفان». لكن الكتاب بالطبع يرفضون أن يختزلوا بكتاب واحد، مهما كان عظيما.
لكن ما مناسبة هذا الحديث؟
مات أتشيبي، كما نشر حينها، قبل خمسة وستين يوما بالضبط، لكن أفريقيا الطقوس والأساطير لم ترد أن تدفنه. لم تستطع أن تقول له وداعا إلى الأبد. فقط في الخميس الماضي، تجرأت على ذلك. أم أن هناك شيئا آخر؟ فرشت الحكومة النيجرية السجادة الحمراء، كما ينقل مراسل «الغارديان» في لاغوس، واصطف الحرس الجمهوري، وحلقت طائرات الهليكوبتر.. فالرئيس هناك! لماذا يحتاج الرئيس جثة أتشيبي ليفعل بها ما يشاء؟ لماذا يحتاج أتشيبي ميتا وليس حيا؟ لم يكتف الرئيس النيجيري غودلاك جوناثان بذلك، بل دعا رؤساء آخرين أيضا، ومنهم الرئيس الغاني للاحتفال بدفن الرجل الذي لا حول له. وضعوه في ثلاجة لأكثر من شهرين حتى يستعدوا للاحتفال بدفنه. لم يتح لهم الوقت قبل ذلك للاحتفال بأتشيبي قبل «الأشياء تتداعى» وقبلها. كان الوقت متاحا لهم للقتل. كل الوقت متاح. وكان كل الوقت متاحا لعذابات أتشيبي!
وكأن جوناثان يريد إعادة الاعتبار لنفسه، أو انتزاع اعتراف به من أتشيبي الميت الذي لا حول له، بعدما رفضه حيا، حين أعاد إليه «جائزته الوطنية العليا»، ناصحا إياه بالعمل أولا على إصلاح حال البلد، كما رفض عام 2004 «تكريم» أولو سيغون، رئيس نيجيريا السابق.
لكن أتشيبي الآن جثة هامدة، يستطيعون أن يفعلوا بها ما يشاءون. إنهم يحتاجونه جثة هامدة. هذا ما يحتاجونه بالضبط. إنه رد اعتبار لهم. لم يستطيعوا هزيمة تشيبي حيا، فقد ظل الرجل زاهدا في كل شيء إلا من حب أفريقيا. رفض أرقى الجوائز التي قدمت له، رفض كل المراكز الأكاديمية الدولية التي عرضت عليه، ومنها مركز جامعي في بريطانيا. بقي هناك في أفريقيا حيث لا تزال الأشياء تتداعى.. لكنهم الآن يفعلون به ما يشاءون.
_______
* شاعر من مصر يقيم في لندن(الشرق الأوسط)