* أمير تاج السر
حتى عهد ليس بعيدا تماما، وقبل أن تتمدد تكنولوجيا الاتصالات الحديثة في حياتنا ويصبح كل شيء ممكنا، كان الكاتب ينفرد بنصه في عزلة تامة، يكتبه بطريقة ترضيه سواء كانت جيدة أو رديئة، وينشره بعد ذلك، وغالبا لا يسمع عن تداعياته الكثير.
ربما يكتب ناقد مقالا في جريدة، ربما يلتقي الكاتب ببعض الذين قرؤوا النص في ندوة أو احتفالية عامة يشارك فيها، ويسأل فيها عدة أسئلة يجيب عليها بما يراه مناسبا، وتوجد ما تسمى بالشهادة الإبداعية، التي يكتبها الكاتب عن إبداعه وتجربته ورؤيته للحياة وشخوصه المبعثرين في الروايات، وينشرها أيضا إن ارتأى ذلك.
حتى الترويج للكتب كان مختصرا أيضا، وأذكر في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي -عندما كنت في مصر- أنني كنت أسمع أخبار الإصدارات الجديدة وأنا جالس في المقاهي، كان كل من يقرأ كتابا يعجبه يأتي ليروّج له بحماس، ولا شك أن تلك الفترة كانت من أخصب فترات القراءة عموما لدى الناس.
كانت الحياة سلسة بعض الشيء، لا تعقيد في اكتساب الرزق اليومي، ولا أي عقبة تقف في طريق التلقي المعرفي، وكان الكتاب -في رأيي- هو وسيلة الترفيه، ليست الوحيدة، ولكنها الأكثر جذبا، خاصة لدى المثقفين. وبهذه الطريقة عرفنا كتّابا عظاما وآخرين عاديين، وقرأنا لهم وروجنا لكتابتهم بطريقتنا.
وعندما صدرت ترجمة عربية لرواية “العطر- قصة قاتل” للألماني باتريك زوسكيند، في تسعينيات القرن الماضي -تلك الرواية التي دخلت تاريخ القراءة بجدارة وترجمت لكل اللغات المعروفة كما أعتقد وبيع منها ملايين النسخ- لم يبق مثقف جالس على مقهى إلا وتحدث عنها بانبهار، وكانت فرصة عظيمة لاقتنائها، ومتابعة ذلك الكاتب العظيم في رواية “الحمامة” التي ترجمت له بعد ذلك.
أيضا كانت الملاحق الثقافية في الصحف اليومية ذات دور كبير في الترويج، حيث كانت أكثر ثراء وعمقا، وغالبا ما تعثر داخلها بجانب الأخبار الثقافية على من يضيء لك نصا لأحد الكتاب. ولا أنسى دور السلاسل الأدبية الرخيصة الثمن التي كانت تصدر هنا وهناك، ويمكن اقتناء عشر إصدارات منها بسعر كتاب واحد، صدر عن دار نشر خاصة.
إذن كانت حدود الكاتب تتوقف عند هذا الحد، والكاتب المنشغل بإبداعه لا يعرف في الغالب ماذا كتب عنه، وماذا قيل عن نصه المنشور -كما ذكرت- إلا بتلك المصادفات البحتة. وكذا تنتهي حدود القارئ الذي لن يعرف عن الكاتب أكثر من كونه كاتبا يجلس في عزلة في مكان ما، ويكتب نصوصه بلا أي ضجيج.
الآن اختلف الوضع كما نعرف، اختلف كثيرا. ومع انفتاح قنوات كثيرة للترويج عن سلعة الكتاب بدأنا نجد كتّابا كبارا -حتى من أجيال فاجأتهم تكنولوجيا الاتصالات، وهم قد تجاوزوا مرحلة تلقي المعرفة الجديدة ليقتحموا تلك التكنولوجيا- أصبحوا يشاركون بأنفسهم في صياغة أخبارهم ونشرها هنا وهناك، أو يضعون أغلفة كتبهم وما قيل عنها في صفحات خاصة، أو على صفحات عادية، ينشئونها في مواقع التواصل الاجتماعي المنتشرة بشدة في الإنترنت، وكثيرا ما يظهرون في القنوات الفضائية، التي أصبحت هي الأخرى بلا عدد، ولدرجة أستغرب فيها من يستطيع أن يتابع كل ذلك؟
هذا وسع من حدود الكاتب بلا شك، وأكسبه أراض جديدة يتجول فيها، لكن ماذا عن حدود القارئ، وتشابكها مع حدود الكاتب؟
لقد ذكرت مرة في شهادة لي عن الكتابة، أنه صار بإمكان كاتب خواطر بدائية، في قرية بلا اسم في أي مكان في الدنيا، أن يرسل طلب إضافة لأمبرتو إيكو أو باولو كويلهو، أو أي كاتب شهير آخر، على أي موقع تواصلي يوجد فيه.
وإن استجاب الكاتب للطلب، تدخل علاقة التلقي مرحلة جديدة، يشارك فيها القارئ بآرائه مباشرة من دون خوف، ويمكن أن يغرق الكاتب في مشاكل بلا حصر، كأن يورطه في محاولاته الشخصية، ويطلب رأيه فيها بإلحاح، أو كأن ينتقد نصا له بلا دراية، وهكذا.
لقد شاهدت كثيرا عبر شبكة الإنترنت -المفتوحة لكل شيء- قراء يبدون آراء شديدة السلبية في كتّاب راسخين، وبعض هذه الآراء تكتب على صفحات الكتاب أنفسهم، قرأت من يصف رواية مثل “ذكرى غانياتي الحزينات” لغارسيا ماركيز، بأنها رواية تافهة لا تستحق النشر، ولا ينبغي أن تلصق باسم ماركيز، ورواية أخرى لأمين معلوف بأنها أردأ كتاب قرأته.
هذا الكلام عادي ولا مشكلة فيه على الإطلاق، وكان يردد مثله قديما في المقاهي وغيرها، لكنه لا ينتشر، ولا يعرفه الكاتب غالبا كما ذكرت، لكن الشيء غير العادي أن يبدأ القارئ في العمل على نصوص منجزة قرأها، ويذكر أن هذا الكتاب نهايته ساذجة، وينبغي أن تكون النهاية هكذا. أي أنه يقوم بكتابة نهاية من عنده لكتاب ربما لم يفهمه جيدا، ويسعى جاهدا لتوصيلها للكاتب الذي تورط في الاشتغال على الإنترنت.
أن يذكر أن الكاتب كان يسخر من القراء حين كتب روايته هذه، ولا يكون الكاتب وهو يكتب يسخر من ذهنية أحد، ويأتي قراء آخرون يشاركونه الرأي وهم لم يقرؤوا الكتاب أصلا، ويصل ذلك الرأي الغريب للكاتب، فيضطر أن يعود إلى نصه، ليعرف في أي موضع سخر من القارئ، ولا يعثر على شيء.
وقد أرسلت لي مرة قارئة رسالة ملحة وجدتها في أي موقع أرتاده، وعلى بريدين إلكترونيين أملكهما، وكانت تضع لي -بإصرار- نهاية من عندها لإحدى رواياتي التي لن تكون نهايتها إلا كما كتبتها، بناء على ما حدث في النص الذي قضيت شهورا وأنا أحاول إنجازه. كان ذلك تدخلا لم يكن ليحدث في الماضي، وأشبه بالذي يطرق باب بيتك المدهون بالأبيض مثلا ليطلب منك تغييره إلى الأزرق.
التواصل مهم، هذا أمر لا شك فيه، وما لم يكن ثمة تواصل بين الكاتب والحياة، لن تكون ثمة كتابة ذات جدوى، لكني -برغم ذلك- كنت أفضل لو ظلت الحدود بين الكاتب وقرائه كما كانت في السابق، الكاتب في عزلته ينجز ما يستطيع إنجازه، والقارئ في قراءته يختار ما يعجبه ويترك ما لا يعجبه، وتمضي سكة الكتابة بلا تدخل من طرف في رأي طرف آخر.
________
* روائي من السودان (الجزيرة)