*حسن عزالدين
قبل 200 عام، وتحديدا في 22 مايو 1813 ولد ريتشارد فاغنر، الموسيقار الألماني الأكثر إثارة للخلاف. موسيقاه لا تزال حتى يومنا هذا تبهر متذوقي الموسيقى الكلاسيكية، وشخصيته لا تزال تقسم الآراء بشأنه. ورغم ربطه دائما بمدينة بايرويث حيث وصل مسار حياته إلى ذروته، فإنه ارتبط أيضا بإقليم ساكسونيا حيث ولدت أول المشاعر المرتبطة بمؤلفاته الموسيقية، وحيث كذلك تشكلت أفكاره وآراؤه.
مدينة لايبزيخ أعدت مؤخرا احتفالات عارمة ارتباطا بهذه الذكرى اليوبيلية، فهي تفخر بأن الموسيقار العبقري قرر أن يصبح موسيقارا بين ربوعها، وهنا أيضا وقع في عشق المسرح وسحره. المدينة اعتمدت على التقاليد التي أسس لها «اتحاد ريتشارد فاغنر» المحلي والمؤسس خلال عام 1909، حيث تم إحياء التقليد بالتعاون بين الاتحاد المذكور والمدينة، بعد فترة توقف خلال الحرب وبعدها أيضا. عشاق موسيقى فاغنر حددوا ثلاثين مكانا مرتبطا به وعائلته، بالإضافة للمكان الذي سيقف فيه تمثاله بعد هذه الفترة الطويلة. فرغم القرار الصادر عن المدينة في عام 1883 لإقامة تمثال له بعد وفاته، فإن ظروفا كثيرة حالت دون ذلك.
فاغنر والنازية
رغم مرور كل تلك الأعوام لا يزال فاغنر موضع خلاف في أرجاء العالم. بعض عشاق الموسيقى يعتبرونه أكبر عبقري موسيقي على الإطلاق، والبعض الآخر يصر على إدانته بسبب أفكاره التي استغلتها لاحقا الدعاية النازية بشكل كبير. إسرائيل مثلا تمنع موسيقاه رغم قيام بعض فرقها بعزفها بين وقت وآخر في المهرجانات العالمية. ولا يزال الخلاف قائما بخصوص «حجم النفس النازي» لدى فاغنر – وهو خلاف سيبقى ماثلا، كما يؤمن كثيرون في أوروبا، لأن مسألة تقييم تفاصيل التاريخ تختلف من شخص لآخر، ومن إيديولوجية لأخرى. كما أن تقييم مواقف فاغنر التي تطورت خلال حياته، يبقى موضع نقاش وخلاف حادّين.
رغبة التدمير الخلاقة
ويبدو أن فاغنر نفسه يعقّد لنا الأمور. فنرى في شخصيته رجلا معاديا للسامية سبق هتلر في هذه الأفكار، لكنه كان أيضا مهووسا «بالرغبة الخلاقة للتدمير». كتب في نشرة «الثورة» خلال عام 1848: «أريد تدمير نظام الأشياء التي تجعل من ملايين الناس عبيدا لدى عدد قليل من الناس الذين هم من عبيد قوتهم وثرائهم الذاتي».
لكن الخلاف قائم حتى حول صلاحية أعمال فاغنر الضخمة، وهذا هو في الواقع الأمر الجوهري، لأنه في كل عام يتم الاحتفال بفاغنر (بالإضافة لإدانته) في مدينة بايرويث وغيرها بطريقة مغرورة مبالغ بها أحيانا. هذا على الأقل ما يعتقده بعض النقاد الأوروبيين الذين يتساءلون: من سيكون قادرا على التمتع بتلك الساعات الطويلة من الانتاج الأوبرالي؟ ومن لديه الجرأة الكافية لتقديم أوبرا من أعمال فاغنر بضمير مرتاح وأداء رائع كما هو مطلوب دائما؟ لا شك بأن مسارح مثل هذه هي قليلة العدد، حتى في أوروبا نفسها.
شخصية متعددة التأثير
أما من يتجرأ على خوض هذه التجربة، فيعتمد على أسباب منطقية وواضحة: ريتشارد فاغنر لم يكن مؤلفا موسيقيا وكاتب أوبرا فحسب، بل شخصية فنية طال تأثيرها الأدب بشكل عام والفلسفة، شخصية تعكس صورة محددة للتطور الذي حدث في القرن التاسع عشر. ويرى متخصصون ونقّاد موسيقيون أنه يتم غالبا ربط شخصية فاغنر بكثير من التحيّزات المبسطة، حيث يتم تقديمه كمؤلف أوبرا طويلة تتناول الأساطير الجرمانية، أو يتم ربطه بشكل آلي بالإيديولوجية النازية بسبب استعمال موسيقاه وأعماله الأخرى من قبل النظام النازي. هذا الأمر دعا ببعض المسارح المرموقة في أوروبا لعدم الاكتفاء بعرض مؤلفاته لوحدها، بل إرفاقها بسلسلة من النشاطات الأخرى التي تضيء على حياة هذا الموسيقار.
لقد وضع فاغنر أسس الموسيقى الحديثة ومنه انطلقت المحاولات الحداثية. وكما كتب ناقد الموسيقى الحداثية فريدريخ هريتزفيلد، فانه نادرا ما نجد عملا فنيا فرديا يرسم طريق المستقبل بشكل بارز، ولهذا السبب أيضا قد يكون مفيدا التعرف الى موسيقى فاغنر عن كثب، رغم المعاناة الحقيقية أو المزعومة التي يمكن أن تثيرها موسيقاه – أو الحيثيات المرتبطة بها ـ في نفوسنا.
________
*(القبس)