*إبراهيم صموئيل
من الأفلام الوثائقية التي شاهدتها ولفتتني بقوة، وانطبعت في داخلي فيلم قصير(نحو 30 دقيقة) يحمل اسم “فاشيّة عادية”. جُمع الفيلم من أرشيف التسجيلات الإخبارية التلفزيونية التي صورت الزعيم الألماني أدولف هتلر أثناء تنقلاته وزياراته ولقاءاته واجتماعاته المختلفة، وقد اختير عدد من اللقطات والمشاهد لضم بعضها إلى بعضها الآخر، وعرضها متتالية تحمل في طيّاتها دلالات لا تحصى.
وقد اكتفى المخرج بتعليقات إرشادية خاطفة وتنبيهات سريعة للمشاهد لا تحمل أي أحكام قيمة أو مواعظ أيديولوجية معادية مما درج عليه الإعلام السوفياتي السابق.
لن أعرض موضوع الفيلم ووقائعه كاملة، سأكتفي بالتوقف مع مشهد واحد من مشاهده، حيث نرى فيه هتلر يقف فوق أرض ترابية جرداء يحمل معولا، وقد شرع بصنع حفرة صغيرة تمهيدا لشتل شجيرة، وإيذانا ببدء مشروع ضخم للتشجير.
وعلى عادة تصوير الرؤساء والزعماء بافتتاح مشاريع متنوعة، لم يكن في الشريط الإخباري هذا ما يلفت النظر. إلا أن المخرج يعيد المشهد إياه طالبا من الجمهور المشاهِد للفيلم تدقيق النظر ليس في شخص هتلر أثناء الحفر، بل بالمحيطين به تحديدا.
وحين يُمعن المشاهد النظر بالملتفين حول الزعيم (وهم من كبار الجنرالات والساسة في عصره) يتمكن من رؤية ما كان قد فاته تماما في المشاهدة الأولى، وما يحمل في ذاته الدلالة الكبرى والأخطر على الزعيم وقادة حكمه ونهج سياسته في آن معا.
ففي اللحظة التي يبدأ فيها هتلر بالانحناء والاستواء لإنجاز الحفرة بمعوله، سنرى المحيطين به جميعهم -القريب منه والبعيد عنه- وقد شرعوا -من دون معاول- ينثنون مع انثنائه ويستوون مع استوائه لكأنما هم أيضا، ينكشون الأرض ويهيئون الحفرة. حتى إذا ما توقّف ومسح جبهته توقفوا ومسحوا جباههم، ثم طفق الضباط منهم يسوّون قبعاتهم العسكرية الرسمية التي كادت تسقط عن رؤوسهم جراء انهماكهم بالانحناء والحركة!!
ليس في المشهد أي ممثل أو حيلة سينمائية أو خدعة بصرية، بل اُقتطع كما هو من أحد الأشرطة التلفزيونية الإخبارية التي بُثَّت في زمن هتلر، ثم أُخذت لتُعرض داخل الفيلم الوثائقي المسمّى “فاشية عادية”!
وعلى غرار هذا المشهد، تحتشد مشاهد ولقطات وحركات كثيرة، تحكي بالصورة ما يعجز عنه الكلام، ويقصّر دونه التعليق السياسي، وتعبّر بالوثيقة ما قد لا يُصدَّق لو عُبّر عنها بسيناريو فيلم روائي مكتوب!
لا يحتاج المرء إلى تعليق أو ديباجة تنظير سياسي. لا يحتاج إلى جرأة في الكتابة تخترق الحدود والخطوط. يكفي الذكاء، وتكفي الفطنة والعين اللمّاحة والهاجس الراصد الذي يبحث ويتتبّع الوامض الدال، والعابر المشير ليتخذ منهما ما يكفي لتعرية نظام كامل وإدانته.
ما يجعل من الشرائط الإخبارية المختارة مادة درامية تصلح للسينما إبداعية “عين” المخرج حصرا. إذ ما من لقطة أو مشهد يقدم نفسه للمشاهد من المرة الأولى. على الدوام ستبدو الوقائع عادية، شائعة ولا غرابة فيها ولا إثارة، إلى أن يقوم المخرج بنزع غلالة الاعتياد عن عيون المشاهدين بتوجيه الانتباه، وتركيز الرؤية لمعاودة بناء المشاهدة. أي أنه يعمل على تفكيك رؤية المشاهد، وصوغها من جديد، ليتمكن -عبر الرؤية الجديدة- من تقديم مادته وتلقّيها على نحو مغاير لما كان مألوفا.
يقودنا ذلك إلى المقولة المعروفة “هناك عشرات الطرائق لقول الحقيقة أو لتعرية الواقع”، عشرات “الاحتيالات” والمناورات، من دون أن نلجأ -بالضرورة- إلى مدفعيات من عيار ثقيل أو دبابات ضخمة تقرقع وتصوّت! يمكن لنا أن ننتزع خزعات صغيرة من لبّ الكتلة، بيد أنها ملتقطة بأدوات بالغة الدقة والحساسية، وبأيدي جرّاحين مشغولين بالجوهري، شغوفين بالدال ومهمومين باكتشاف مجاهل الفن والحياة.
في النهوض الشعبي العربي الجاري الآن، ثمة مئات، أو قل آلاف المشاهد واللقطات والوقائع، آلاف الحالات القصيرة زمنا والكبيرة دلالة، التي توجز وتكثف الفكرة والمعنى. تختصر الكلام -بل وتلغيه أحيانا- لتقدم نفسها بصريا، وعلى نحو محرض لا يحتاج شرحا أو تفسيرا، إذ تصل الدلالة إلى المشاهد عبر أقصر الطرق، وتمكث في ذاكرته ووجدانه، ثم تشع وتضيء في داخله ما قد يكون ملتبسا عليه، مشوشا في ذهنه وباعثا على الحيرة.
الأمر لا يتوقّف على توثيق النهوض العربي أو إنجاز أفلام روائية عنه، إذ قبل النهوض وبعده يظل أساس الإبداع: التكثيف والاختصار. إذ من شأن المطولات والشروح المستفيضة “دهس” تلك اللحظات الوامضة وتمديدها بما يفيض عن الحاجة والضرورة، فتفقد خواصها وتأثيرها بلغو وتزيّد وزجّ لا طائل منه.
لحظات وامضة، غنية، أشبه بـ”غذاء الملكة” في عسل المنحلة كله. أشبه في حياتنا العامة بنظرة واحدة تصوب إلى أي منا فتحمل له كل الرأي والموقف والمشاعر. أشبه بكلمة أو إشارة أو لمسة، أو إشاحة وجه لنفهم ما يراد، ويمكث القصد في دواخلنا مثل ضوء واحد في عتمة شاملة.
الفيلم في السينما -الوثائقية أو الروائية، القصيرة أو الطويلة- ليس على الدوام وصية المخرج الأخيرة قبل رحيله، ولا وصية المؤلف أو كاتب السيناريو. ليس السيرة الذاتية، والتجارب، والمواقف التي اتخذها والحروب التي عاصرها وعايشها والأفكار السياسية التي اعتنقها حتى يعمل على الزجّ بها مجتمعة ومتزاحمة في فيلم واحد!
السينما لا تزيح ابن خلدون أو الطبري لتحل مكانهما! ومن جهة أخرى فإن المشاهد -بداهة- ليس طالبا في المرحلة الابتدائية أو الإعدادية لنشرح له، ونلقمه تلقيما: البيضة مَن باضها والدجاجة من أنجبها، كما يُقال!
جمع مئات النشرات الإخبارية والبرامج والوثائق المتلفزة لإختيار “عيّنات” تعرّي الطغيان، وتكشف التبعية العمياء، وتقدم “مقولة” الفيلم مترعة بالدلالة والمعنى، كان كافيا لمخرج فيلم “فاشية عادية” من دون عرض وتأريخ سيرة هتلر منذ ولادته وعِقد نقصه ونزعة التمييز لديه، وشهوة التدمير…!
ولعل في النهوض الشعبي العربي الكثير الكثير من الومضات والإلماحات والإشارات الكشّافة، لا عمّا يحدث منذ بداية النهوض إلى اليوم، بل عمّا حدث منذ عقود، وكان الأساس العميق في اشتعال أشجار الغابة العربية كلّها!.
_______________
كاتب وقاص من سوريا (الجزيرة)