دلالة السارد في “فتنة الشمس” للقاص المغربي نفيس مسناوي


اطمة بن محمود / تونس

( ثقافات )


تتطور القصة شأنها شأن الأنماط الادبية و الابداعية المختلفة فانتشرت فيها ما يسمى بالكتابة الحديثة اوالكتابة التجريبية التي قامت بخلخلة القصة التقليدية على الطريقة الموباسانية و تحاول ان تصوغ لها تركيبتها و مفاهيمها وايقاعها الخاص بها .. و تشهد الكتابة القصصية التجريبية في المغرب نموا حثيثا يحسب لها بامتياز فاذا كان كاتب القصة الكبير احمد بوزفور يعتبر شيخها وأحد أهم مبدعيها فإن لهذا الشيخ عدة مريدين أنجحهم هم التلاميذ الخونة الذين فكوا أغلال الوفاء التي تجعلهم غير قادرين على الاضافة و تحبسهم داخل جلباب الشيخ، و تحوّلهم الى أفشل التلاميذ، و بالتالي تصبح الخيانة الأدبية أو العقوق الابداعي شرطا للتميز لعل في هذا الاطار نذكر الكتابة القصصية عند أنيس الرافعي ( الذي أفردته بمقال نقدي ) و نجد ملامحها أيضا عند نفيس مسناوي ..
أصدر القاص الشاب نفيس مسناوي كتابه القصصي ” فتنة الشمس” وهو الذي يأتيها شاعرا بعد أن أصدر ديوانين ” الضوء المنبعث من البعوض ” سنة 2006 و” إبتهال البردية ” سنة 2008.. يأتي نفيس مسناوي القصة محمّلا بروح شعرية باذخة و يسعى أن يكتبها على طريقته فكأنه يداعب فراشة وكأنه يدق مسمارا في خشب جاف، يأتي مسناوي القصة عاشقا فيداعب اللغة و كأنه في حضن حبيبته و يأتيها كأنه قاتل مأجور يريد ان يقتص من اللغة فيذبح بعض المعاني و يشوه اخرى و يربك انسجام القاريء مقابل متعة غريبة لا يستلذها سواه..
في كتابه ” فتنة الشمس ” يقدم القاص الشاب نفيس مسناوي اثنا عشرة قصة يمكن توصيفها جميعها بالقصص الذهنية اي تتنزل في المسار السردي ضمن تيار الوعي بما أن عناصر القصة من شخوص ومكان و زمان و غيرها لا تكتسب أهمية كبيرة في ذاتها بل بما تمثّله من أفكار يتقصّدها الكاتب.
لذلك سأنحاز في قراءتي هذه الى المدرسة البنيوية و لعل أهم ما ألاحظه في قصص مسناوي انها تنبني جميعها على سارد واحد بضمير المتكلم بمعنى ان الكاتب يقدم نفسه بوصفه الراوي العليم الذي يتدخل دائما في كل نواحي السرد فهو الذي يقدم الشخوص و الأحداث يسرّعها مرة و يبطئها اخرى، يطيل السرد أو ينهيه، و غيره من الشخوص تحوم حوله يستحضرها متى شاء، و يغيّبها متى شاء و جميعها تدور في فلك واحد هو الضمير المتكلّم بما هو هذا السارد العليم.
فما هي خصوصية هذا السارد العليم في قصص ” فتنة الشمس ” لنفيس مسناوي ؟؟
يحتل مبحث السارد في الدراسات السردية الحديثة دورا مهما نظرا للوظيفة الأساسية التي يشغلها داخل المحكي وهي وظيفة ريادية تجعل منه مركز الكون القصصي . و يندرج مفهوم السارد ضمن علم السرد أو حقل السرديات وهي تسمية حديثة العهد اقترحت في أواخر الستينات من طرف تودوراف و تلاه مجموعة من الرواد انكبّوا جميعا على دراسة النصوص الحكائية بالوقوف عند بناءها الهندسي ومكوناتها البنيوية دون اهتمام بمضمونها الاجتماعي أو النفسي أو الايديولوجي و لذلك أعتقد أن قصص نفيس مسناوي هي التي تختار لنفسها بل تفرض على قارئها أن يتعامل معها وفق المدرسة البنيوية .
ألاحظ ان كل قصص المجموعة تتجمّع حول تبئير وحيد وأساسي من خلال التركيز على السارد بماهو سيد الحكي يتحكّم في كل الشخوص، يجعلها طوع أمره يقفز على الزمان و يتدخّل في المكان و في كل ذلك يربك القارئ و يجعله يلهث خلف هذا السارد الذي لا يهدأ.
فماهي خصوصية السارد في ” فتنة الشمس ” ؟
يرى عدد من البنيويين و منهم رولان بارط ان السرد ينطوي على وظيفة تبادل كبرى موزعة بين مانح للسرد ( مرسله ) و بين المستفيد منه ( المتقبّل ) بمعنى ان السارد هو الوسيط بين الكاتب و القارئ، يحدد بارط مهمة السارد في أنه حمّالا لرواه و مواقفه من جهة و يضبط له وظيفته في النسيج السردي .. فالسارد هو الذي سيقترح علينا الحكي و يقدم لنا الشخوص و يوزع عليها الأدوار و يلقنها الحوار ويحشو لها أدمغتها بأفكار و مواقف و يعلم كل أسرارها ..
بهذا المعنى القاص نفيس مسناوي يجعل من السارد عليما فهو ليس شخصية نمطية و لا سهلة بل انه شخصية مبتكرة و معقّدة بل أذهب الى ما يقوله وولف كايزير ان ” السارد شخصية متخيّلة تقمصها المؤلف ” أي ” ان السارد هو الخالق الأسطوري للعالم ” (1) بمعنى ان القاص نفيس مسناوي يجعل في كل قصصه من السارد عنصر التبئير على اعتبار انه الشخصية المحورية التي وحدها تقدم الشخوص التي ليست لهم قيمة الا بمدى ارتباطهم بالسارد وهو وحده له حق سرد الحكاية و القفز على الزمان وتجاوز المكان كما يريد، بهذا المعنى يصبح السارد عند نفيس مسناوي سيد القص بامتياز حتى انه يصنع نوع من التماهي بينه و بين الكاتب نفسه و لعل قارئ القصص يتساءل في أكثر من موضع هل ان الكاتب نفيس مسناوي هو نفسه السارد و هل ان هذا السارد بصدد سير ذاتية و تجارب حياتية لنفيس مسناوي؟ .
ماهي وظائف السارد في ” فتنة الشمس ” ؟
تتحدد وظائف السارد في ” فتنة الشمس ” في وظيفتين داخلية و خارجية :
1 – الوظيفة الداخلية تتمركز حول بنية القصص و تتمثل في عنصرين :
أ – خلخلة عنصري الزمان و المكان :
في كتابه ” فتنة الشمس ” يجعل القاص نفيس مسناوي المكان لا قيمة له في حد ذاته بل بما هو مجرد اطار للأحداث و لذلك لا يهتم مسناوي بوصف المكان و تقديمه كعنصر أساسي انما وجوده يقتصر فقط على اشارات عابرة و خاطفة وفق ما تسمح به الأحداث او ما تحتاجه الشخوص لاغير.
على مستوى الزمان أيضا نلاحظ ان القاص نفيس مسناوي لا يقول بالتطابق بين زمن السرد و زمن القصة المحكية ( المسرودة ) وهو ما تذهب اليه البنيوية خاصة، فزمن القصة يخضع بالضرورة للتتابع المنطقي و زمن السرد لا يخضع بالضرورة لذلك ( 3 ) ( مثل قصة ” إعدام شبح أشبه بصلب ” 
ص 13) يقول السارد متحدثا عن لحظة اعدامه ” تم تنفيذ حكم إعدامي دون إطلاق الرصاص كما اتفق في المداولات بين أعضاء العصابة الشرذمة ، قبل اقتيادي الى الملعب الفارغ دقائق قبل دخول مشجعي الفريقين على مراحل متفاوتة ، قبل ولوج اللاعبين العشق الأخضر للاحماء، قبل ولوجهم الملعب بأقمصة مختلفة عن أقمصة الإحماء، قبل إطلاق صافرة اللعب، وامتلاء المدرّجات لآخرها بالمتفرجين المترقّبة سحناتهم الكارثة. تهاوت الجثة بسبب كل ذلك و صارت حطاما. صرختُ بشدة أمام الجميع بعد أن تمّ رميي من أعلى من طرف مرتشين تحلقوا حولي لتطويقي و حملوني الى السور المنحدر الذي يمكن بيسر تسلّقه.”
ب – استهداف اطمئنان القارئ بمكائد المراوغات السردية :
السارد عند القاص نفيس مسناوي يتلاعب بالحكي و يتحكم في خيوطه باطلاق، فيسمح لنفسه بالتحرك داخل الاحداث باستباقها مرة و بالعودة الى سابقها و بالقفز على بعضها بمعنى أن كسره للرتابة السردية تجعله يتلاعب بالقارئ نفسه و من ثمة ينتج السارد لنصوصه ” دليل للقراءة” خاص به مما يؤكد ان هذا السارد ليس شخصية نمطية و سهلة بل انه شخصية مبتكرة و معقّدة بل و ماكرة.
( مثلا : قصة ” صحون المتعة ” ص 49 عندما يريد ان يوهم السارد انه ليس المؤلف يقول ” أقرأ الشعر رفقة والدي أمام الجمهور الغفير و أتدرّب لالقائه طويلا في المنزل تماما مثلما كان يفعل مازن مع والده و كذا نفيس و سباستيان ” .
2 – الوظيفة الخارجية : تتمركز حول مضمون القصص و تتمثل في عنصرين :
أ – وظيفة سوسيولوجية :
عندما يعبّر عن حاجة الانسان النفسية و الاجتماعية للرموز و الأساطير والحكايات العجيبة و الشخصيات الغرائبية.. من النصوص الغائبة والحاضرة والمؤثرفي الحالتين بشدة في قصص مسناوي و تمثّل خلفية ثرية لها هي انفتاحه على القصص العجيبة والأساطير(القديمة) والشخصيات ( الحديثة ) المثيرة أيضا مثل هرقل و شهرزاد و دستويفسكي و بروميثوس و سيدنا نوح الخ …
(مثل : قصة ” هرقل ام شهرزاد ” ص 73 / قصة ” سارق النار ” ص 69 / قصة ” الاعتذار عن ركوب سفينة سيدنا نوح ” ص 79 …. )
ب – وظيفة ذهنية :
عندما يقوم بدور المنظّم لمجموع العلاقات التي تشدّ الوعي الفردي للوعي الجمعي وتبين علاقات التأثير و التأثر المتبادلة بينهما . أغلب قصص ” فتنة الشمس ” تنسج فيها الشخوص علاقات مع غيرها و تعبّر عن رغبتها في التواصل معها سواء لاشباع نزعتها الفردية في التحقق أو لاشباع رغبتها في التموقع في الآخر… 
( مثل : قصة ” متسولون ” ص 63 / قصة ” صحون المتعة ” ص 49 / قصة ” الموجة ” ص 71 …)
وظائف السارد عند نفيس مسناوي تجعلنا ننتهي الى التأكيد على مركزيته المطلقة و يجعله يستهدف القارئ في اطمئنانه بما يوفره في قصصه من أجواء مشحونة بالقلق و الارتباك و التوتر الى حد أنه يمكن أن ننتهي بالقول أن المسرود له في ” فتنة الشمس ” ( أي القارئ المفترض ) يتحوّل بدوره الى أحد شخوص النص السردي لأن القاص نفيس مسناوي يسمح لنفسه بالتلاعب بهذا القارئ و التطويح بانتظاراته و ارباكه و بالتالي تحويله الى كائن سالب حسب تعبير الدكتور محمد دخاي (3).
يمكن ان ننتهي في خاتمة هذه المقاربة البنيوية الى التساؤل ان كان يجب اعتبار تمركز السارد وتحوله الى عنصر تبئير في ” فتنة الشمس” نقطة قوة تحسب بامتياز الى القاص نفيس مسناوي خاصة وانه في بداية مشواره القصصي ( هذا الكتاب القصصي الاول له ) ام يمكن تنزيله في اطار مرحلة في الكتابة قد يتجاوزها في نصوصه القادمة بما يوفر له امكانية التنوع و الاثراء في الكتابة القصصية لديه.؟؟
المصدر :
= كتاب ” فتنة الشمس ” لصاحبه نفيس مسناوي / دار الحضارة للنشر – الطبعة الأولى 2009 .
الاحالات :
1 – وولف غايغ كايزير : من كتابه ” من يحكي الرواية ؟ ” ترجمة محمد السويرتي.
2- أحمد ممّو : من مقالته ” في المصطلح القصصي ” 
3 – د.محمد دخاي ” من مقالته ” السارد.. الدلالة و التداول في الدراسات السردية الحديثة “.
* شاعرة وناقدة من تونس

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *