علي السوداني
( ثقافات )
أوّل أوّلة البارحة ، توزّع جسمي على ثلاث مصائد دسمات . ربما كانت مصائب . بباب بريدي الألكتروني ، ثمة رسالة مسمّنة بفلم قصير ، طعمها مثل طعنة مباغتة . لا مناسبة للرسالة التي حطّمت الثلث الأول من يومي المغبر . ألفلم كان عبارة عن ثماني دقائق مأخوذة من شريط طويل كنتُ شاهدته منذ سنوات لا أدري عديدها ، يحكي قصة فجرية مروّعة تمَّ فيها إعدام عائلة آخر قياصرة روسيا أثناء الثورة البلشفية . كان الثوار قد احتجزوا العائلة المالكة في طابق ثانٍ من قصر بائس ، وعلى أولى عتبات الفجر ، صعد إليهم رسول ، وجهه مثل وجه نعال اسفنج عتيق ، وطلب منهم النزول إلى قبو الدار بذريعة أخذ صورة تذكارية – هذا ما يخبر عنه الشريط – وعندما تكامل اصطفاف العائلة عند أحد حوائط القبو ، ظهر عليهم واحد يشبه قابض الأرواح ، وقرأ عليهم نصّ قرار الإعدام . تخاذل القيصر المسكين وتعجّب وتساءل ، لكنّ الفرقة التي كانت تلبد بظهر قابض الأرواح ، كانت عاجلتهم بإطلاق الرصاص الحار . ألقيصر مات وزوجته وبناته والخادمات الجميلات والطباخ والطبيب ، وإبن القيصر الذي ثقب قلبي وفتّت روحي ، في لقطة قد أحتاج إلى ألف عام كي أخلعها من ذاكرتي القويّة . في اللحظة التي انشهرتْ فيها فوهات المسدسات بوجه العائلة ، قام الطفل البديع الحلو المدهش ، بطبع بوسة قوية فوق خدّ أبيه ، ومع نهاية تلك البوسة ، كان عليَّ أن أهرع صوب منام وليدي الجميل اليخبّل نؤاس ، لأزرع فوق وجهه النبويّ ، رشّة بوسات ، ومطرة دمعات ساخنات . في تمام العصرية المغبرة ، نزلتْ فوق عمّان الحلوة مطرة قوية . خرجتُ إلى الشرفة وكحّلت عيني بمنظر المطر وطقطقة الحالوب على الزجاج ، حتى انخرق جدار السعد والبهجة ، بنداء متّصل منبعه شاحنة بيع الخضار . هنا ينادي الباعة على بضاعتهم التي سعرها أرخص من سعر الدكان ، بوساطة شريط مسجّل ، تعجبتُ من دقة تكرار مفرداته أول نزولي بعمّان حتى انفضاح أمره . طرتُ فوق نعالي صوب الشارع ، فوجدتُ سائق شاحنة الخضار ، راكباً هو وطفله الغضّ – كم كان يشبه طفل القيصر أبو خدود حمر – وكان واحدهم يكافح بجسده وما تيسر من خِرَقٍ بيض ، من أجل تغطية البضاعة وسترها من المطر القاسي المزفوف بعجّة طين ، ونقرات حالوب تسميه الناس هنا ، حَبْ عزيز . عاونتُ الرجل والولد وطلبتُ منهما الإنتظار ، كي أجلب من بطن الدار ، كمشة ليرات تكفي لشراء نصف شهر تام ، من البندورة والخيار والبصل والكوسة والباذنجان والليمون والزهرة والشلغم والبطيخ . طلبتُ من الزلمة المهزول ما أريد وأشتهي ، ويمّمتُ لحيتي صوب الجدار . كنتُ أسترقُ النظر وأراوغ فأرى الطفل المبلل ، وهو يناوش أباه ، بوكسات الخضار ، وكان دعائي من ربّ العالمين القادر القدير الجميل الجبار ، أن يتشاطر الولد ويتفهلو ، وينتقي لي ما فسد من البضاعة ، إلّا أنهما لم يفعلا ذلك أبداً ، بل قاما بإعانتي على شيل حملي الكبير حتى باب الدار ، وفي تلك اللحظة ، كان بمقدوري سماع انثلام قطعة جديدة من القلب .
ألثالثة كانت نابتة في موتٍ مباغتٍ قاسٍ ، وجدته لا يشبه موتاً آخر . مات طالب القرغولي . أقصد أعظم ملحّن أنجبتهُ بلاد ما بين القهرين في قيامتها الحديثة .
طالب أيها العزيز :
لا حروف تعينني الآن ، كي أخلق لك أعظم مرثية وقد متَّ مثل موتة البلاد التي جنتْ عليك وأنت لم تجنِ على أحد . وبما أنَّ دفتر الخسارات خاصتك ، صار دسماً وضخماً ، لذا سأسطو عليك ، وأدري أنَّ بابك لا يغري أفلس الحرامية . تعال معي حبيبي – كما كلّ ليلة من ليالي الوحشة – لننصت معاً ، إلى واحدة من أنّاتك المذهلات :
حيل اسحن كَليبي سحنْ
وغرّكَني بالهمْ والحزنْ
ما كَولَن أحّاه وأونْ
ياليل صدِّكْ ما أطخلك راس ، وأشكيلك حزنْ يا لييييييييييييييييييييل .
* اديب من العراق يعيش في عمان