*عبد الباقي يوسـف
ليس بوسع الرواية أن تكون في معزل عن السياسة ، ذلك أن الرواية تسعى إلى تقديم أنماط الحياة في كتابها ، والسياسة هي جزء من الحياة .
مهما سعى الروائي إلى تجنب السياسة ، فإن عمله في نهاية المطاف يعطي صورة عن الواقع السياسي في تلك الحقبة التي اشتغلت عليها الرواية ، ولذلك نرى التاريخ الروائي والأدبي يحفل بمحاكمات لأقطاب الرواية والأدب عبر التاريخ .
إن : مدام بوفاري ، وآنا كارنينا ، والدكتورزيفاجو ، والمسخ ، وقصة مدينتين ، وذهب مع الريح ، ولمن تُقرع الأجراس وغيرها من جواهر الآداب العالمية ، تقدم لنا واقعاً سياسياً إلى جانب تقديمها الواقع الاجتماعي ، وذلك يشمل حتى رواية التحليل النفسي كما الأمر بالنسبة لتراث ستيفان زفايج ، ودوستويفسكي ، ومارسيل بروست ، وتشارلز ديكنز وغيرهم .
في الرواية المعاصرة ، لم يكتف الروائيان غونتر غراس بذلك ، بل انخرطا في العملية السياسية بشكل مباشر .
إذن ، لم تستطع الرواية عبر تاريخها تجنّب السياسة ، لأن حركة المجتمع تتأثر على الأغلب بالواقع السياسي في ذاك المجتمع ، والرواية هي جزء من التفاعل الاجتماعي .
رغم أنها فكرة تبدو هزلية في زمن التوسع المعلوماتـي على الشبكة العنكبوتية , كمن يعلن بأنه تمكن من اختراع مذياع في هذا الزمن الذي لم يعد فيه المذياع بطل وسائل الإعلام .
إلا أنني توقفت أمام فكرة الروائي الألماني الشهير الحاصل على جائزة نوبل للآداب 1999 / غونتر غراس / بإعجاب منذ عدة سنوات وهو يعلن إطلاق مجموعة أدبية متواضعة أسماها ( لوبيك 05 ) . وهي مجموعة سوف تقدم تحليلات ومداخلات في الواقع السياسي الألماني والعالمي , وربما سوف تنشر بيانات حول الأحداث السياسية في العالم تعبر من خلالها عن الرأي الذي تراه , والموقف الذي تقفه من هذا الحدث أو ذاك .
يبدو أن الكاتب لا يشعر بأنه يؤدي مهمته على وجه يرضى عنه إلا عندما يميل بكتاباته سواء بأسلوب مباشر أو غير مباشر إلى الأجواء والتفاعلات السياسية التي تخص في جانب منها حركة المجتمع, وهنا بتقديري تكمن روح الحساسية والمغامرة معا , إذ أن الكاتب يقف على مغامرة كبرى يمكن لها أن تأتي على مجده الأدبي , وهذا ما جنب الكثيرين من الأدباء الدنو من العمل السياسي المباشر , فهي بتقديرهم لعبة خاسرة في كل أوجهها , وهي في أحسن أحوالها سوف تحيلهم إلى أدباء متقاعدين عن الأدب على حساب عملهم الجديد الذي يستغرق كل وقتهم وجهدهم ونشاطهم اليومي , وكذلك علاقاتهم .
لكن من الطرف الآخر نرى الكثير من الأسماء الأدبية البارزة التي استطاعت أن تسخـّر السياسة لمزيد من الشهرة والنجاح والتألق الأدبي , ولعلي أذكر : مكسيم غوركي , جان بول سارتر , ألبير كامو , بل وحتى إيزابيل الليندي .
فهؤلاء كانوا يؤيدون إيديولوجيات سياسية دون أن تترك أثرا على تألقهم الأدبي , وهنا تكمن أهمية إبداعات هؤلاء , فهي لبثت شامخة ولم تهزها رياح السياسة رغم أن الكثير من تلك المفاهيم والإيديولوجيات لم تعد في تألقها كتألق هذه الأعمال الأدبية إلى يومنا
هذا .
وها هو مؤلف / الطبل الصفيح / ابن ( مجموعة 47 ) التي انطلقت من عام 1947 إلى عام 1967 وضمت أبرز الشخصيات الفكرية والأدبية في التاريخ الألماني المعاصر وكانت تقدم أفكارها في المشهد السياسي الألماني والعالمي بجرأة يأتي اليوم ويقدم هذه المجموعة .
وهي من خلال الاسم تكاد تشبه سابقتها , كذلك من خلال اعتمادها على أسماء شبابية ساخنة , ولعل غراس نفسه يبتغي أن يعيد تلك المجموعة إلى الوجود مرة أخرى من خلال اسم جديد .
يدعو غراس إلى ألا ّ يتخلى الكاتب عن المشاركة السياسية سواء في أعماله الإبداعية , أو من خلال حواراته أو كتاباته اليومية السريعة في الزوايا .
يقول غراس مقدما ( لوبيك 05 ) :
/ لدي ولع بأن أستمر في ذاك العرف السائد , وألا نعيش في معزل عن السياسة وكأنها لاتعنينا بشيء/.
ماريو بارغاس يوسا
يميل ماريو بارغاس يوسا في مجمل أعماله الروائية إلى نزعة التغيير في المجتمع ، إن كتاباته تتميز باجتماعيتها بامتياز .
لعل ما يميز إبداع أي كاتب في العالم هو مفهومه لعملية الكتابة ، هذا المفهوم يعطي صورة ولو أولية عن أعماله ، ولذلك يلجأ القارئ على الأغلب لقراءة مذكرات ، أو تصريحات الأدباء بغية الوصول إلى هذا المفهوم الذي يراه الكاتب للإبداع .
ماريو بارغاس يوسا من الروائيين الكبار في عالمنا الآن ، وقد تكلل نتاجه الروائي بجائزة نوبل للآداب ، وهو كثير الترحال في غالبية دول العالم متحدثا عن مفهومه للكتابة كعملية تغيير ورقي في المجتمعات البشرية .
رواية واحدة هي التي يمكن أن تؤسس لحضور روائي بارع في المشهد الروائي العالمي ، وأظن أن هذه الرواية بالنسبة ليوسا هي / الفردوس على الناصية الأخرى / .
تلك الرواية التي عرفت القارئ والناقد معا بهذا الكاتب ، وجعلت الناس ينتظرون كتاباته الجديدة .
لذلك عندما زار يوسا دمشق ، كانت اسم روايته / الفردوس على الناصية الأخرى / تقترن باسمه ، وربما حظيت بشهرة أكثر من مؤلفها .
عندها تعرفت على شخصية / فلورا / بطلة الرواية , الابنة غير الشرعية التي تحلم بفعل شيء يخفف من آلام المضطهدين , وبحياة أقل ألما , وهي شخصية استطاعت أن ترتقي لدي إلى شخصية / إيفالونا / في رواية إيزابيل الليندي , وكذلك باولا , ثم بيوكولا لابريتلوف في رواية توني موريسون / أشد العيون زرقة / وكذلك سولا .
هذه الشخصيات التي ليس بوسعي نسيانها مع شخصيات نسائية روائية أخرى .
رواية / الفردوس على الناصية الأخرى / تعرفك بأجواء روائي يتمتع بثقافة روائية وحكائية وسردية وفنية عالية , كما أنه يرصد بقوة أدق التفاصيل , وربما أكثرها حساسية وإحراجا بجرأة مقنعة , إلى جانب أنه يتمتع بحالة فياضة من قوة الشاعرية في تناول العلاقات الإنسانية , وهذا ما بدا واضحا لدى زوج فلورا – أو كما يدلعها / فلوريتا / – في إحدى المشاهد المثيرة التي صورها ماريو في غرفة النوم عندما دخل عليها الزوج ورآها نائمة على بطنها .
أتذكر أيضا / بؤساء / فكتور هوغو عندما كنت في بداية صفوفي الثانوية ، وقد أكون بدأت الكتابة في تلك الحقبة عندما كنت لا أزال في المدرسة حيث كتبت قصائد وقصصا قصيرة وحكايات, بيد أني لم أفكر أني سأكرّس يوما حياتي للكتابة.
يتميز يوسا في أعماله بأنه رجل موسوعي المعرفة، يطلع على كل شيء ، ويستطيع أن يوظف هذه المعرفة بشكل جيد في أعماله .
أحيانا تشعر بأنك أمام رجل موسوعي فتحترم جهده الدقيق في عمله الذي يأتي نتيجة خبرة وبحث مكثف لا يقل عن بحث زميله في رواية / العطر / .
تؤدي الرواية عند يوسا وظيفة متقدمة في التفاعل الاجتماعي والسياسي ، ولذلك لايبتعد يوسا كثيراً عن السياسة ، وهو يعتبر أن عمله في الرواية لايبعده عن نشاطه السياسي
السياسة لدى يوسا لا تنفصل كثيرا عن الأدب ، فيمكن للأديب كما يرى يوسا أن يلعب دورا سياسيا ، كما يمكن للسياسي أن يقوم بدور أدبي في مجتمعه .
لذلك أعطى يوسا بعضا من وقته للسياسة ورشح نفسه لرئاسة الجمهورية في بلاده .
يصف يوسا تجربته السياسية بقوله : هذا صحيح ، لكني لم أكرّس ذاتي يوما للسياسة.
ما فعلته هو أني اعتقدت انه يتوجب علينا دائما أن نشارك في الحياة السياسية، خصوصا إذا رأينا أن الأمور حولنا ليست على ما يرام .
إذا رأينا أن المجتمع انحرف ، ووقع في الفساد وفي الاحتكار ، وإذا طغى الظلم .
رأينا ناسا يرضخون قهرا للتمييز العنصري، في هكذا حالات علينا أن نقوم بشيء مفيد، هذا ما أسميه السياسة.
عدا ذلك لم أحب السياسة يوما، وذلك منذ طفولتي المرّة الأولى التي مارست فيها السياسة بشكل سرّي، كانت عندما كنت طالبا في الجامعة، وذلك تحت الديكتاتورية، أحسست وقتها أن السياسة المنقذ الأساسي والضروري للبشرية ، حتى أني أعتقد أنه أمرٌ لا أخلاقي أن لا نشارك في السياسة، وخصوصا سنة 1987 إذ كان البلد يعيش حالة دقيقة جدا.
_______
(المدى)