تنويعات مختلفة على أوتار الكآبة


*محمّد محمّد الخطّابي*- غرناطة

(ثقافات) 

الشاطئ يمتدّ عبر المدى البعيد،الصّخور المدبّبة تملأ المكان حتى ليتعذّر على المرء المشي بمحاذاة السّاحل إلاّ بحذر شديد،الأمواج غاضبة ، مزبدة . تلاطم الصخور الكبيرة التي تواجهها فى صمود حادّ عنيف . يتطاير رذاذها المتناثر فى كلّ إتجاه. 
أخذ بعض الصيّادين أمكنتهم المعتادة بين الصّخور ينظرون إلى البحر فى إصرار وصبر وصمود،حتى ليخيّل للناظر إليهم أنّهم تماثيل حجرية منصوبة على أشكال متباينة منذ أقدم العصور. بعض السكارى يتكوّمون عند مدخل كهف مظلم يحتسون فى سلام أردأ أنواع النبيذ، يحملقون فى البحر ولكنّهم يلتفتون بين الفينة والأخرى صوب ناحية من نواحي الشاطئ المترامي الأطراف الذي تمتدّ على مقربة منه طريق طويلة تؤدّي إلى سوق الخضر،وإلى ضريح ناصع البياض تعلوه قبّة خضراء،أكثر روّاده من النساء اللائي خانهنّ الحظّ فبقين عوانس ، وفى اعتقاد السكّان أنّ من تقصد منهنّ هذا الضريح لا يحول عليها الحول حتى تكون قد أصبحت فى عداد المتزوّجات..!
على الجانب الأيسر من الشاطئ تنتشر دور الصّفيح ،وأكواخ الخشب المختلفة الأشكال والأحجام ،لا يزيد ارتفاع معظمها على متر ونصف ، وقد لا يتجاوز اتّساع أكبرها جميعا مترين مربعين، عند كلّ مساء يخرج السكّان ، قبيل غروب الشمس إلى أبواب أكواخهم ليهيّئوا بعض الطعام،وحول كلّ بيت من هذه البيوت الحقيرة مجموعة من الأطفال الصّغار عراة إلاّ من سترات بسيطة تقيهم لفحات البّحر القارصة، كلهم متّسخون،تبدو عليهم الفاقة فى أحلك وأحطّ صورها، معظمهم يصرخ لأسباب أو بدونها، وفوق سطوح البيوت نشرت بعض الألحفة والحصر منذ الصباح الباكر لتبعد عنها أشعّة الشمس بعض الحشرات المؤذية متناهية الصّغرالتي تحوّل ليل السكّان إلى عذاب مقيم حتى الصّباح.
بعيدا عن البّحر تمتدّ بعض المراعي والحقول التي ظلّت جرداء يابسة على الرّغم من أنّ الفصل كان ربيعا..! وفي بعض جوانبها ترعى بعض الحيوانات من أبقار وأغنام ودوابّ تبدو هزيلة نحيلة ومرهقة.. وحول جدران أطلال بالية مهدّمة تنتشر بعض الكلاب الضالة تشمّ الأرض دون انقطاع فى عصبية وتوتّر وهلع، وعبر الطريق الطويلة الممتدّة نحو السّوق والضريح تمرّ بين الفينة والأخرى بعض العربات المحمّلة بأنواع مختلفة من الخضر ، وبعض الدرّاجات النّارية، والعجلات وبعض المارّة .
هذه الصّورة المتداخلة متعددة المشاهد لا يمكنك أن تظفر بها إلاّ إذا جلست عند مقهى الحاج علاّل، الذي كان موفّقا فى اختيار هذا الموقع حيث نصب بعض الأخشاب المهترئة ليقيم بها شبه مقهى يؤمّها بعض المارّة ، ولكنهم قليلون جدّا بالقياس إلى الأكوام البشرية الهائلة التي تقطع الطريق الطويلة كلّ يوم منذ الفجر حتى آخر النهار.
أخذت مكاني كالعادة على مقعد منحن من المقاعد الخشبية البالية الموجودة عند مدخل المقهى ،فإذا بالحاج علاّل يسرع الخطى نحوى هاشّا باشّا ويقول:
-أهلا بأستاذنا هادي مدّة ما شفناك..؟!
شكرته على ترحيبه وملاطفته وطلبت منه كأسا من القهوة..مرق إلى الداخل يجرّ قدميه بتؤدة وتثاقل ..كان الحاج علاّل رجلا بدينا، ضخم الجسم ، يرتدي سروالا مغربيا أصيلا يطلق عليه أهل البلد (قندريسة) يزيد من بدانته،وحول خصره يلتوي شال أحمر اللون بدأ البلى يدبّ فيه،وقميصا رثّا لا ترتاح العين لرؤيته،وعلى رأسه قلنسوة فى لون شاله تلفّها عمامة بيضاء اللون يشبك حواشيها بدبّوس عند أعلى القلنسوة. وأوّل ما تصيب العين من هذا الرجل هو شاربه المعقوف الكثيف الأشيب الذي يحجب فمه الصغير،كما أن ّ حاجبيه كانا كثيفين أشيبين يكادان يغطّيان عينيه لولا أنّه يرفعهما نحو الأعلى عندما يتحدّث ،ويصعب عليك إدراك إذا ما كان الحاج علال سعيدا أم حزينا إلاّ من حركات رأسه.
تقدّم نحو الداخل وسرواله الفضفاض القندريسة يجعله يبعد رجليه عن بعضهما وهو يهزّ رأسه فرحا جذلا بمقدمي. 
لقد تعوّدت زيارة هذا المكان لكونه كان مرتع صباي وطفولتي ،ويصعب على المرء أن يطرد من ذاكرته بقايا الماضي ورواسب الطفولة البعيدة التي تظلّ ماثلة نصب عينيه إلى أن يوارى التراب.
إنني لست أحسن حالا ممّا كنت عليه. حتى ولو أصبحت أحمل لقبا أمقته لأنه لا يعطيني صفتي الحقيقية ، فأينما حللت أو إرتحلت أو أقمت أجده أمامي ، فأنا أستاذ عند الجزّار،أستاذ عند البقّال،أستاذ عند الإسكافي، جميع أهل مدينتي ينادونني بهذه الكلمة الكريهة، وإن أنا إلا “معلّم” بسيط يلقّن الأطفال الصّغار أبسط المبادئ الأولى للقراءة والكتابة..
كان والدي صيّادا ماهرا ،كان ذا قوّة وصبر عجيبين فقدهما مع مرور الزّمن وتقدّم العمر وبتأثير رطوبة البحر، وصقيع الليل،وطول السّهر،ولكنّه ، مع ذلك،كان يوفّر لأسرتنا معيشة أكثر رخاء ممّا أوفّره لها أنا اليوم..!
منذ أن توفّي والدي أصبحت العائل الوحيد لأخواتي الصبايا الثلاث،ووالدتي العجوز، ولزوجتي وولدي ، وحتى ولو انتقلنا للعيش فى مدينة مجاورة لهذا المكان فإنّه كثيرا ما يحلو لي أن أزوره بين المرّة والمرّة.
حضر الحاج علاّل وقطع عليّ حبل تفكيري بسعاله الجريح الذي يخيّل لسامعه وكأنّه يحمل مرضا فاتكا بين ثنايا ضلوعه. وضع الفنجان على الخشبة الموضوعة أمامي وهزّ رأسه معتذرا عن نوبة السّعال التي عاودته وانصرف.
أحسست بنوع من الاشمئزاز من القهوة التي حملها إليّ ،وتخيّلت أنه أصابها برضاب فمه أثناء السّعال،ولكنّي مع ذلك لم أجد بدّا من شربها، فصرت أحسوها ببطء ، وأشعلت سيجارة ، وطفقت أسرح بنظري وفكري هنا وهناك حول تلك الصّخور والمراعي البئيسة التي كانت يوما مّا مرتعا لطفولتي البعيدة. وتدور فى مخيّلتي أشرطة الذكريات وأنا أهزّ رأسي أسفا وحسرة على فقدان ذلك الوقت الذي ولّى وليس له إيّاب.وعلى النقيض من ذلك تولّدت فى نفسي فجأة سعادة غامرة دبّت فى كلّ جسمي،فتناسيت قليلا البيت ومشاكله وزوجتي وولدي وأخواتي الثلاث العوانس ووالدتي العجوز.
-آه يا والدي العزيز كيف خلّفت وراءك ولدا وثلاث بنات..؟ ألم تفكّر فى المستقبل ..ولكن أنّى لك ذلك..؟ ثمّ إنّ الذنب ليس ذنبك ، فليس أقسى عليّ من أن أرى هؤلاء البئيسات القعيدات وهنّ يسرعن الخطى مهرولات لملاحقة عربة من العربات التي تجرّها الخيول التي هدّتها السّنون تجري حاملة فوقها أكواما من النساء إلى هذا الضريح علّه يسهّل عليهنّ أمر الزواج..!
مذ كنت صغيرا وأنا أرى ذلك المنظر الذي كنت فيما مضى أومن به من أعماقي . غير أنّ إيماني به اليوم اندثر تماما عندما عايشت تجربة أخواتي اللاّئي أخفقن جميعهنّ فى العثور على زوج صالح أو طالح وهنّ من أكثر العوانس ارتيادا لهذا المكان..!!.
كانت الأفراح بهذه المنطقة تكتسي صبغة غريبة من الحزن والكآبة، فقد كان محظورا على السكّان أن يضحكوا بأصوات عالية ، أو أن يغنّوا أو يرقصوا بتبرّج احتراما لقدسية هذا المكان ، لذا قلّت الإبتسامات فيما بينهم ،وسكن الحزن والوجوم وجوه الجميع .
كانت الشمس تميل نحو المغيب ، وكان قرصها الأحمر الذهبي يدنو من الافق البعيد، وبدأ يختفي بين السّحب الداكنة شيئا فشيئا ، وطفقت بعض البيوت تغلق أبوابها الصغيرة ، وبدأ عدد الأطفال يقلّ تدريجيا،كما أنّ الأبقار والدوابّ تستعدّ هي الأخرى للعودة من حيث أتت.
الكلّ فى حركة وهرولة وعجلة من أمره إلاّ أنا فقد خيّل لي فى تلك الهنيهة أنّني كنت أستمتع بأسعد لحظات عمري. بينما أنا على تلك الحال إذا بموكب يتراءى لي من بعيد فأيقنت بحكم العادة أنه موكب احتفال بعقيقة او عرس أنهى مراسيم الحفل والتبرّك بأعتاب الضريح الصالح وهو عائد من حيث أتى.فتسمّرت عيناي محدّقتين فى ذلك الحشد البشري الهائل، وجالت الذكريات من جديد بخاطري،فتمثّلت أمامي أيّام ما كنت صغيرا كثيرا ما أركض وراء هذه الجموع لعلّي أظفر فى الأخير ببعض الحلوى أو الأكل وغالبا ما كان ” الكسكس” ، وصرت أرقب الحشد عن كثب والبسملة لا تفارق شفتيّ . حتى إذا اقترب الموكب شيئا فشيئا إذا بأصوات متداخلة لم يتبيّن لي مدلولها بعد ، تنتهي إليّ من بعيد ،ووجدت نفسي فى حالة من الذهول،لهذه الصدفة الغريبة التي سأزداد بها متعة لا شكّ ، واصل الحشد مسيرته فى اتجاهي رويدا رويدا ، وما أن دنا منّي حتى داهمني صوت مرعب أحال ابتسامتي إلى وجوم كئيب:
-لا إله إلا الله…محمّد رسول الله
– لا إله إلا الله..محمّد رسول الله
كان الجميع يردّد هذه الكلمة فى آلية ولا مبالاة غريبين ،كان النعش يتوسّط عربة حصان، وكان الحصان ذميما وهزيلا ولابدّ أنّه كان مريضا أو عجوزا ، يمشي الهوينى، ويهزّ رأسه من أعلى إلى أسفل دون انقطاع ، التفّ جمع من حفظة القرآن الكريم حول النّعش،وقد إتكأوا بلا اكتراث على النعش وهم ينظرون إلى الغادي والرائح ،مردّدين نفس الكلمة المأوفة : – لا إله إلا الله .. محمّد رسول الله.
كان الناظر إليهم يحار فيما إذا كانوا حقا حزانى أم لا..!!
تابع الموكب طريقه فى لامبالاة ولم يلتفت أحد إلى الجنازة ،ظلّ الصيّادون فى وضعهم السّابق، أصوات السّكارى لم تنقطع عن الوشوشة والعربدة، صيحات الأطفال بقيت كما كانت عليه من الصّراخ والصيّاح، نباح الكلاب لم يهدأ.. حتى الحاج علاّل لم يكفّ عن السّعال وعدم الاكتراث، كنت الوحيد المتتبّع للموكب ، ظللت أرمقه بنظري برهة حتى بعد عنّي وخفتت أصوات الحشد. ثم غاب عن الأنظار.
لم أفق من سباتي أو غفوتي إلاّ عندما ربت الحاج علاّل بيده على كتفي وهو يقول:
-الأستاذ..الأستاذ واش نعست ولاّ..؟
أدرت رأسي نحوه فإذا به يبتسم لي وينتظر الحساب ، ولم أدرعلى وجه التحديد هل كنت نائما حقا ، أم كنت فى حالة غفوة أوذهول. ارتبكت قليلا ، ثم نهضت من مكاني ودفعت له الحساب وحيّيته ببرود وانصرفت.
وفى طريق العودة إلى البيت أحسست بأصوات الحشد ما زالت تعلو وتزدحم بداخلي فى عنف وقوّة بنفس النبرة الحادّة الآلية الرتيبة والرّهيبة:
-لا إله إلا الله…محمّد رسول الله..
______________________
*كاتب من المغرب يعيش فى إسبانيا.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *