* فاروق شوشة
إلى العقاد: صاحب “هدية الكروان” و محمود حسن إسماعيل: صاحب “راهب النخيل”
هل يسمعون تناعق الغربانِ؟
من بعد ما ولّى صدى الكروانِ!
رحل الجمال عن الربوع، وعشّشت
فوق الذرى أُممٌ من العقبانِ
وارتَجّ بالوادي نعيب صارخ
متدافع من شدّة الغليانِ
والأفقُ وشّحه السواد، فلا يُرى
في الأرض غير ستائرِ الأحزانِ
ما للفصول تبدَّلت أوقاتها
وكأنها يئست من الدورانِ
أَسِنتْ، وأدركها الفسادُ، كأنما
هي جيفةٌ نُثرتْ بكلِّ مكانِ
أحوالهُا اختلطَتْ، فكلُّ زمانها
نكدٌ، ووجهاها لنا سيّانِ
هجم الوباء على العبادِ، فأصبحوا
وكأنهم زُمرٌ من الجرذانِ
وطغى الشقاء على الوجوه فأصبحت
أطلالَ عهدٍ بادَ منذُ زمانِ!
يسترجعون وقد تبدَّل حالهم
أحلامَ عيشٍ من دَدٍ وأمان!
****
شيخٌ من الزمن المُخبّل ساخرُ؟
أم صوتُ نحسٍ في البرية كافرُ؟
أم راهب فوق النخيل، تردّدتْ
نَعَباتُه، فارتاع منها شاعرُ؟
سمّاك شيخًا للزمان، وناسكا
أبدًا تغادى فجرهُ وتباكرُ
وتصبُّ في أسماعه صور الأسى
وكأنها موتٌ دِهاقٌ دائرُ
والناس لا يدرون سرَّكَ، كلَّما
قاربْتَهم خطْوًا، وأنت تكابرُ
يتشاءمون إذا طلعْتَ عليهمُ
وانهار بينهمُ وبينك ساترُ
أَو لم يَروْكَ مذكّرًا بفَنائهم
وكأنَّ صوتك جثة ومقابرُ؟
ويُردِّدون متى الخلاص؟ وأنت في
واديه عصفٌ وموجٌ هادرُ
وتوهّموا من غَفْلةٍ وحماقةٍ
أن الظلام – وقد تحرّش – عابرُ
وإذا النذيرُ بأنّ لعنتك التي
حلّت عليهم حظُّ قومٍ عاثرُ
ونصيبُهم من عيْشهم في يومهم
مقتٌ وإذلالٌ وعسْفٌ جائرُ
لم يبْق إلا أن يثوروا، مثلما
ثاروا، ودارت بالرقاب دوائرُ!
****
هل يسمعون تناعق الغربانِ؟
هذا النديرُ يصبُّ في الآذانِ
حُممًا،
ويُغري الناس أن يتشبثوا
ويُغري الناس أن يتشبثوا
بالإفْكِ والبهتانِ،
هاهم أولئك، يكذبونَ
كمثْلِ ما يتنفسونَ،
ويُمعنونَ بكلِّ كيدٍ،
واصطناع براءةٍ
ونفوسهم سوداءُ كالغربانِ
والوعدُ في أفواههم
زورٌ
ومَكْذبةٌ
وشيطانيةٌ،
ونقيعُ سُمِّ الأفعوانِ
وحديثهم للناسِ
لا يشفي الغليلَ،
ولا يبلُّ صدًى لظمآنٍ،
ولا ينجاب إلا عن مزيد
من ضلالات القلوبِ
ومن تكاذيب اللسانِ
فأين من نَعقاتهم
تَسْبيحةُ الكروانِ؟
ونقاءُ وجهِ الفجرِ
يسطع في المدينةِ
مثل أضواء الهداية،
في قلوب عشيرة الإيمانِ
وتناغم الألحان في أوتارِ جمْع الطَّيْرِ
حينِ يهمُّ بالطيرانِ
وفضاؤه المسحورُ
من ألقٍ
ومن حريةٍ،
ومدًي شفيفٌ
من عذوبة منطق وبيان!
الوالغون بجيفةٍ معروضةٍ
يتهافتون تهافتَ الذؤبانِ
جنحوا إلى وأْد الجمال، فأصبحت
أيامهم نُكْرًا، وسوءَ أوانِ
واستعذبوا نهْشَ الربيع، فروحهُ
جفّت، ودبَّ الموتُ في العيدانِ
لكنما الآتي يلاحقُ دوره
مُستخلصا فرجًا من الهذيانِ
فلعلَّ في الدَّوْحِ القريبِ، وطيرْهِ
شدْوًا يموج بقادم الألحانِ
لحنٌ يحرِّك في الضمائرِ
ثورةَ المشغول بالأنقى
وعشْقِ النفسِ للأبقى
وتوْقِ الروحِ للأَتْقى
ويُسقطُ لعنةَ الغربانِ!
_______________
* شاعر مصري (أخبار الأدب)