*خيري منصور
(إلى احسان عباس) تتخطى الكتابة عن احسان عباس المناسباتية الى الاعتذار، فهو شأن روّاد آخرين لم يسلموا من عقوق يصل حدّ العقاب، وما من عقاب انكى من التّناسي لأن هؤلاء عصيون على النسيان، اللهم الا اذا كان في سياق هذا التردي الذي شمل كل شيء، وحذف الفارق بين ابن آدم وابن آوى، فلا ذاكرة ولا كوابح ولا حدود، ما دامت السطوة للخلايا الزواحفية في الدّماغ، ولوحشية الغريزة التي انتهت الى التسفيل بدلا من التصعيد.
احسان عباس لمن عرفوه عن كثب ينافس فيه الانسان الناقد ونادرا ما يحدث مثل هذا العناق الذي يتاخم التطابق بين من يحتكم الى العدالة في حياته اليومية والشخصية وبين من يحتكم الى الموضوعية والتروي في النقد، لأن هذه المهنة هي افراز حضاري بامتياز، لهذا تصبح في الازمنة المراوحة بين البدائي والرعوي والرّيعي رهينة واحيانا نمط انتاج للتكسب، خصوصا في تراث نقدي بدأ بطلاق امرىء القيس لزوجته ام جندب لأنها فاضلت بين قصيدة لزوجها واخرى لعلقمة الفحل لصالح الشاعر الفحل ومنذ ذلك الطلاق والتهديد بالفراق قائم على قدم وساق بين الناقد والمنقود، اذا احسّ المنقود بانه ليس محور الكون والمعصوم الأبدي.
وكان احسان عباس الاكاديمي يحاول قدر الامكان في مرحلة ما من عمره ان لا يتورط بنقد تطبيقي فبقي معلما، وهناك مثل انجليزي يقول من عمل معلما لمرة واحدة يبقى دائما كذلك، هذا بالرغم من ان احسان عباس بدأ حياته النقدية مبشرا بحساسية حديثة عندما كتب عن شعر البياتي في بواكيره، ولم يكن سهلا في تلك الايام على ناقد اكاديمي ان يجازف بالسّباحة ضد التيار الاتباعي، فالشعر الحديث نشأ محاصرا بالتشكيك والنبذ بحيث حرم اثنان من ابرز رموزه في مصر من المشاركة في مؤتمر ادبي عقد في بلودان لأنهما يكتبان شعرا وصفه العقّاد بأنه هجين، وسخر منه آخرون فسمونه ‘شعنثر’ وهي مزاوجة لفظية بائسة بين الشعر والنثر.
لقد اتيح لي ان اسمع شذرات من سيرة هذا العصامي الفذّ قبل ان ينشر مذكراته وهو ابن القرية التي قررت على اهلها الأمية في تلك الحقبة المترسبة من العثمنة، وحين قرر ان يتعلم قطع مسافات بين قريته واقرب مدينة دونها اليوم المسافة بين حيفا وبكين، تارة تحت المطر واخرى على حمار، لهذا عاش ذلك الجيل رغم الظروف التي حاصرتهم وليس بفضلها.
واحسان ناقدا ومعلما ومحققا ومترجما واكاديميا لامعا، عمل في المراحل الاولى من حياته كما لو كان فريقا ويذكر ان غسان كنفاني اهداه روايته ‘رجال في الشمس′ بعبارة مفعمة بالعتاب، فقد قال له ان هذا العمل اقدمه لك رغم انه لا يتعلق بالأندلس وذلك اشارة الى انشغال عباس بتحقيق اعمال ذات صلة بالاندلس، لكن احسان عباس لم يكن بعيدا عن مسقط رأسه رغم التجوال، وعبّر عن هويته برصانة تليق بأمثاله، وبلا اي عُصاب او رد فعل او رعونة، وذات يوم اخترقت رصاصة جدار بيته في منطقة الصنائع ببيروت واوشكت ان تصيبه، لكن احد المجلدات افتداه واحترق وتشاء المصادفة ان نلتقيه في ذلك النهار،الصديقان الراحلان غالب هلسا وسليمان صبح صاحب دار ابن رشد للنشر وأنا في منزله، وكان حائرا في تفسير ما حدث، لكن الطفل الطيب الأشيب استبعد محاولة الاغتيال وعلّق بظٌرف معهود عنه قائلا ان ما تعرّض للاغتيال هو كتاب وكأن الرصاصة الجاهلة والآمية استهدفت المعرفة كلها من خلال كتاب واحد.
ثلاثة اجيال من نقاد واكاديميين ومبدعين عاشت في ظلاله وظلال جيله من الرواد، لكن هاجس الحداثوية الملفّق من ترجمات شائهة واغتراب تغذّيه المكبوتات العربية المزمنة، خلق التباسا لدى البعض ازاء قراءة احسان عباس، رغم ان جهده النقدي اتجه الى الحداثة، فكتب بعد البياتي دراسة موسعة عن السياب.
* * * * * * * *
ان خيانة الموتى والغائبين باتت خصلة كلبية في زمن لا رواقية فيه ولا مناقبية، وما قاله ناظم حكمت ذات سجن في رسالة الى زوجته يستحق الاستذكار وهو اننا نعيش زمنا لا يتذكر فيه الناس موتاهم اكثر من عام، فكيف نتذكر احسان عباس بعد عشرة اعوام كانت عجافا في كل شيء، تداعت فيها دول وممالك، واعيد فيها قتل السهروردي وصلب الحلاج وسُملت فيها عينا زرقاء اليمامة عقابا من العميان لها على ما رأت عن بعد.
خيانة الموتى هي من صميم فقه تأسس على خيانة الغياب، بدءا من النميمة بالمعنى الاخلاقي الى استثمار الغياب من قبل الأدنى حضورا، وحين يتم استذكار غائب سرعان ما يسطو الطقس على الدلالة، وكأننا نريد التأكد مرة اخرى بأن من مات .. مات، وذلك درءا استباقيا لقيامة ممكنة وربما وشيكة، واحسان عباس الذي طالما وُصف بالتعالي الاكاديمي عن التطبيق او نشر المقالات في صحف ومجلات، قرر اثناء وجوده في عمان وفي ذروة شيخوخته ان ينشر في صحيفة يومية مقالات نقدية عن جيل من اعمار احفاده، وتلك حكاية يجب ان تروى رغم ما يمكن ان يرشح منها من الشّخصنة، فقد قرر احسان النشر في صحيفة الدستور الاردنية بعد عدة حوارات اجريتها معه في منزله، ومنها ما كان بحضور اصدقاء لم يفارقوه في وحدته ووحشته حتى الرحيل، لكن ما يضاعف الأسى بالنسبة لي هو ان الرجل فاجأني بكتابة مقال مطول عن نصوص لي وانتهى في السطر الاخير الى وعد بالعودة الى هذا الموضوع من خلال نصوص اخرى، لكن الموت لا مواعيد له ولا يأبه بوعودنا كبشر، وبقي القوس منذ ذلك الوعد بالاستئناف مفتوحا الى الأبد .
* * * * * * * *
منذ غيابه تضاعف العقوق له ولسواه من الاباء وكأن الزنا بمعناه التاريخي لا الجنسي تسلّل الى العائلة كلها، وجريمة قتل الاب بالمعنى الفرويدي اتسعت في غياب الشهود لتشمل قتل الابناء والاحفاد، وربما ابادة السلالة كلها، والرجل الذي تعهّد تربية الخجل القروي بدلا من اللحية والشاربين ورأس المال ايضا كان زاهدا، لهذا لم يجد ما يصف به سيرته الذاتية غير غربة الراعي، الذي لا ينادمه غير الناي وصوت القطيع وحفيف الشجر في العراء.
ولا انسى اشتقاقه ذات يوم لمصطلح الاشفئزاز الذي زاوج فيه بين الاشفاق والاشمئزاز ممن يعوضون قصور الكفاءة بالنفاق الاجتماعي او التسول السياسي .
* * * * * * * *
احيانا يكون الاحتفاء والاستذكار ممزوجا باعتذار خجول لمن نشعر بالتقصير ازاء تراثهم ولو احصينا عدد الاطروحات التي اشرف عليها احسان في ثلاث قارات لأصابتنا الدهشة، فأين هم هؤلاء من المعلم ؟ وهل حالت جريمة قتل الاب الفرويدية دون العرفان ؟
قد يبدو هذا تعميما، لكن الاستثناءات رغم تقديري البالغ لها توشك ان تكرس القاعدة، فليس احسان عباس وحده من يعاد دفنه يوميا في مقبرة تعجّ بالساهرين وان شئت استخدام عبارة ادغار الن بو فهي تعجّ بالعائدين، فثمة اباء واجداد نتناوب على اهالة التراب عليهم جيلا بعد جيل، لأننا اسأنا فهم القطيعة، سواء بالمعنى الابستمولوجي او النفسي، فالحداثة ليست نبتا شيطانيا، بل لها بذور استضافها التراب بعد سقوط اشجار بعناد السنديان وشجن الصفاف!
_______
* (القدس العربي)