الرِّدة


*الحاج ولد لحبيب

حين قرر الترجُل عن حصانه فكر كثيرا كفارس نبيل في صيحات الإستهجان التي ستصدُرُ عن المؤمنين به كمُخٌلص غير أنه تذكر أي قوم هم وأي معركة هذه،ورأى فيما رأى سيد الخيبات ذات مرة صخرة أحلامه تتدحرج من علو أمانيه الشاهق.
وطيلة أسابيع ظل هاتف ما يهمسُ في أُذنه:أتتخلى عن أبناءك،عن أحلامك التي شذبتها طيلة سنين؟لم يعبأ لذلك بل كان يتساءلُ بسخرية مُرٌة:هل أنا حقا أبو حيان التوحيدي حتى يحفل القومُ بي وبقراراتي المجنونة؟،صدر القرار.
غصت جنبات شارع عبدالناصر وسط المدينة بالباعة والعابرين وأنصاف اللصوص ممن إعتادوا التسمر أمام واجهات البنوك والمؤسسات التجارية في إنتظار إحتمالات سرقة أو خدمة مدفوعة،كان بإمكانك السير بموازاة الطريق دون أن تدري أمرصوف هو أم لا بفعل الزحمة الخانقة والمستفزة،باعة الجرائد والملابس المُستعلمة توزعوا المكان،سماسرة أوهام بتمائم أسطورية يذرعون المكان جيئة وذهابا،باعة أحذية لدروب غير سالكة ،بائعة عصائر محلية وبعض البشر.
تعودتُ في مناخات كهذه ألا أفتش عن أي شيء،كان الزحام يبتلعُني،أشتركُ مع أحدهم موطيء القدم،نتبارزُ بالمناكب،نتبادلُ الإعتذارات أو نتخاصم ثم يستدبرُ بعضنا بعضا كأي غرباء وفجأة أجدني قد توقفت لا لألتفت إلى مُستدبري كما يحدُثُ في الغراميات لكلاسيكية بل لأن أحدهم كان قد ملأ فراغا من مربعات الحياة هذه على حين غرة فأيقظ مارد الفضول لدي.
في هذا اليوم العادي جدا لاحظتُ وأنا العارفُ بخريطة المكان أن وافدا جديدا قد بدأ يُزاحمُ بائع الأحذية المغربية المُقتنع كما قال لي مرة ـ لدواعي تسويقية ولاشك ـ أنك تستطيعُ السير دون قميص لكنك لاتستطيعُ فعل ذلك دون حذاء.
بدا الوافدُ الجديد رجلا إستثنائيا ومناقضا لروح المكان،وسيم ودون الأربعين ويرتدي بدلة”سموكينغ” هوليوودية مع فارق التوقيت والمناخات،يقفُ متململا خلف ملاءة وردية فُرشتْ على عجل لتشهد نهاية حياة من ورق،وللوهلة الأولى قرأتُ المشهد بكل ثقة عابري السبيل في أحكامهم التي بسرعة الضوء”مكتبة شخصية للبيع”،بدتْ لي هذه الجملة دون معنى وفارغة المضمون وإن عبرتْ عن شبه حقيقة ونصف إحتمال،ماكنتُ متأكدا منه على أي حال في تلك اللحظة هو أن الأرصفة أمكنة غير مواتية لطرح أسئلة كُبرى أحرى البحث لها عن إجابات،كانت أمواجُ المُتسكعين تحملُني بعيدا لكنني لا أستمريء ذلك فأعودُ حيث الرجل صاحبُ الملاءة الوردية مرة أخرى ونفس الأسئلة التي بلا أجوبة تُشيعني،كانت المسألة واضحة بالنسبة لي فهذا رجل إستثنائي يبيعُ كتبا على قارعة الطريق،أهي كُتبه؟،لم يكن الجواب مُستعجلا،إن تعجُل الأجوبة يُنسي مضمون الأسئلة أحيانا،مكتبتُهُ الشخصية أم لا لا يهم،فالكُتبُ وفق فلسفتي الخاصة لا تُباع ولطالما قدمتُ هذه الفكرة كنظير للفهم الإشتراكي لإشكالية الأرض وأن أول إنسان إقتطع منها جزءا وسٌورَهُ قد جنى بأنانيته تلك على البشرية جمعاء كذا أول إنسان رفع شعار”كُتب للبيع”،”إنها توزعُ مجانا ولا تُباع”كما يُكتبُ عادة على الكُتب الدينية القادمة من السعودية ومع ذلك فتلك الكُتب تباع كما تباع لحوم الصدقات القادمة هي الأخرى من السعودية وتلك قصة أخرى.
إقتربتُ من الرجل الذي بدا غير عابيء بالعابرين،لم يلحظني إلا وأنا أنحني لتفحص عنوانينه التي بدتْ حداثية الهوى للوهلة الأولى بكتاب لعلي حرب بعنوان”أزمنة الحداثة الفائقة”،كان أمامي مُباشرة وتفصلُنا مسافة قصيرة وكانت أنفاسه التي بطعم التبغ الرخيص تصلُني مُعلنة بداية مُبارزة فكرية جديدة فلقد تعودتُ أن أُفحم أصحاب المكتبات بآرائي غير المُهادنة في كُتبهم التي لاتروقني وكذا إنطباعاتي عن كُتبهم الأخرى،في غمرة اللغط والفوضى العارمة التي تطبع المكان بدا أنه يخاطبني غير أنني لم أكن في الواقع أسمعُ شيئا وبدل ذلك كنتُ أرى فكيه يتباعدان وشفاهه تفترُ عن أصوات خلتها مكتومة.
كنتُ أتفحص ديوانا لشاعر موريتاني شهير وكنتُ أقرأ إهدائه في الصفحة الأولى بخط مائل كُتب على عجل،وهُنا كنتُ أعيدُ تصديق تكهُناتي بفخر ممزوج بألم،فلم أر في حياتي وهي الحافلة بإرتياد المكتبات كتبا للبيع مع توقيع مؤلفيها،كنتُ قد قرأتُ عن هذا الديوان وكان مُثقف الرصيف هذا قد قرأه لأنه إقترب مني أكثر لكي أسمعه وأخذ يحدثُني عنه دون سابق سؤال،وكأي عربي بدأ بذكر مساوئه ونقاط ضُعفه و ” قصائده المُترهلة والتي إقتربتْ من أن تكون نثرية لولا بعض التعقُل والإحساس بجنون هذا الخيار مع ذائقة شعرية لاتُلقي بالا للتجديد”،ليختم قائلا”هذا الديوان أنصحُ به ليس لأنني أريدُ التخلص من مكتبتي بل لأنه تعبير عن مرحلة تحول حاسم في مفهومنا للثقافة والشعر،سيُصلبُ هذا الشاعر عماقريب في إحدى خيم الشعر المضروبة في فناء دار الشباب القديمة …”.
وضعتُ الديوان جانبا وأخذتُ أُجيلُ بناظريٌ على الكتب المُتناثرة،”كيف تتحدث الإسبانية بطلاقة”،”ديوان المُتنبي”،”حياتُنا الجنسية”،”ديك الشمال”،”مدينة الرياح”،”سرير الغريبة”،”تاريخ أوروبا الحديث”،”جغرافية البلقان”،”تعقيب على موت المؤلف”،”برناردشو،حياته بقلمه”،”لعبة اليمين واليسار”وأخيرا في الطرف كتاب أصفر مُهترء ودون عنوان،ظهرت عنواين أخرى جديدة لم تطلها عملية المسح الفضولي الأولى وقد كانت في أغلبها كتبا فرنسية مرمية بعشوائية وحنق حضاري رُبما وبعض الكُتب الأخرى صغيرة الحجم ورديئة الطباعة،وضعتُ يدي على “ديك الشمال”وقد بدتْ رواية من خلال تذييل عنوانها بهذا الوصف وكنتُ أنظر في الجانب الآخر تحت قدم الرجل مباشرة حيث”تعقيب على موت المؤلف”،إستشعر هو إهتمامي أو إستغرابي للعنوان فدفع إليٌ الكتاب بسرعة فتلقفتُهُ بإهتمام لايخلو من نفاق،بالفعل كان عنوانا غريبا وذا مسحة بوليسية”تعقيب على موت المؤلف”وفي الأسفل بعنوان هامشي”مقالات نقدية”،بدأتُ أتفحصُه بفضول شديد مع أنني عرفتُ مُسبقا طبيعة مُحتواه غير أن قصة”موت المؤلف”بدتْ لي درامية أكثر مماينبغي للمؤلف وهو صانع الدراما وباعث الحياة،وكقيٌم مكتبة تساعد مُرتاديها بقراءة أولى للكُتب وبشكل عابر وتسويقي إن أمكن قال رجل”السموكينغ”:هذه فكرة نقدية دافع عنها سيمولوجي فرنسي يدعى السيد بارت أوبالأحرى رولان بارت،وتتمثل هذه الفكرة في إستقلال النص عن صاحبه والكتاب عن مؤلفه بحيث يصبح ملكا للقاريء والناقد ليستخرج كل منهما منه مايُريد وفق تأويلات وقراءات مُتباينة وهكذا يموتُ المؤلف….”،يصمتُ لفترة أمام قرائتي الصامتة لإحدى فقرات الكتاب ثم يُضيف مُتسائلا هذه المرة”أتعرف؟عندنا لايموتُ المؤلف لأنه لايُقرأ أساسا،هنالك أسباب مُميتة وكثيرة غير تأويلات وإستخراجات النص…”.
كنتُ أعرفُ إزاء أي رجل أنا في تلك اللحظة فزيادة على بيع مكتبته أراد المسكين التخلص من شوائب قراءاته الماضية فطفق يوزعُ معلوماته على رصيف غير مواتي وبما أنني كنتُ على عجلة من أمري لم أكلف نفسي صد هجماته التنظيرية وأنا المليء بالقراءات والهراء والمصدوم بهذا النبي الذي خيب أتباعُهُ رجائه على أن صدمتي تعمقتْ بوقوفي على ضالتي وهي تحاول الإختباء خلف كتاب فرنسي بلاعنوان،كنتُ لأقفز لولا أنه هو إتجه مع عيوني النهمة نحو بقعة بعينها من الملاءة حيث سايرتْ كُتبُه زحمة الرصيف فكادت تخنق كتابا إختنق مؤلفه ذات خيبة فأصدر قرارا بمصادرة أعماله وبحكم قضائي حرٌم بمُقتضاه تداول أعماله،حينها صدرتْ إعتراضات وهمهمات ما لبثت أن توقفتْ أمام إصرار الكاتب.
دفعتُ له مبلغ الألف أوقية الذي في جُعبتي وناولني الكتاب،كان بتوقيع المؤلف وتأريخه ولم يكتف بذلك بل أخذ يُحدثُني عنه كصديق قديم إفتقده،وأراد حتى الإسهاب في الحديث عن نقاشاتهم الفكرية في تلك الأزمنة غير أنني أوقفتُه بداعي مشاغلي الأخرى،لقد كُنتُ في الواقع أريدُ الإبتعاد قبل أن يتراجع الرجلُ عن قراره وهو الذي لايعلم أن هذه هي آخر نُسخة في المكتبات والأسواق من هذا الكتاب كما لن يعلم بالعلاقة الشخصية التي تربطُني بالمؤلف ذاك الذي لم أتمنى له يوما أن يموت.
بعد أن ترجل عن حصانه طلبني لا لأخذ رأيي في الإعداد لجولة قادمة بل لتعميق إنكسارات تلك الماضية،حدثني عن رغبته في الحصول على نُسخة من كتابه الأول والذي إختفى فجأة ونصحني بقراءة كافكا لأتبين الطريق ولم يكن ليُسدي لي نُصحه هذا لولا أني إستنصحتُه.
وسيحدُثُ بعد أشهر من ذلك أن أقتحم عليه خلوته حاملا بيدي نسخة من كتابه موقعة بيده لقاريء يُشبهُه ولأكون بذلك أحد شخوص الرواية بعد عقود على هامش الهُلام.
قال:إبحث عن الكتاب وإستعرهُ من صاحبه،سأدونُ منه بعض الأفكار وأعيده لك.
ولسوف لن يُعيده رغم أني كذبتُ عليه بالقول:وجدتُ الكتاب بحوزة أحد الأصدقاء ووعدتُه بإعادته إليه قريبا.
لاشك أنه قرأ إهدائه للقاريء فعرفه،إختفى الكتاب وظل الكاتب في خلوته،لم يمُت بعد غير أنه وكما يكون الموتُ خيارا نبيلا للأحصنة التي لم تعد تقوى على الرهان تكونُ الخلوة منفى الفرسان المُترجلين عن أحصنتهم في غمار المعركة في إنتظار موت سيأتي.

___________
* كاتب موريتاني

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *